بجوار رجل أحبه

2017-12-16T12:45:38+02:00الأربعاء - 13 ديسمبر 2017 - 8:30 م|

تتدافع هذه الذكريات بالذات إلى ذهني، دون أن أبذل مجهودًا لاستدعائها؛ لأنها دومًا هناك، في مقدمة وعيي، حيّة؛ فتأتيني يوميًا تقريبًا، كأطياف تكتنفني في رحابتها.

أتذكرني صغيرًا، أجلس في صالة منزلنا، بجوار أمي؛ منتظرًا أبي الذي ذهب أخي الأكبر لاصطحابه من المطار، عائدًا من رحلته السنوية لأداء العُمرة خلال رمضان.. على مدار سنوات، اعتدتُ أن يسافر أبي قبل بداية رمضان بأيام، ولا يعود إلا بعد مُضي أيامه العشرة الأوائل.

ننتظره، تسبقه صوت خطواته المميزة على السُلم، التي لا زلت أميّز وقعها دون غيرها حتى الآن، قبل أن يفتح الباب، وتُسرع أمي، بالرغم من ثقل حركتها بسبب المرض، كي تكون أول من يحتضنه؛ فيقبِّل رأسها، بينما تُقبِّل هي يده اليُمنى في حنان.

ثم تبدأ مرحلة فتح الحقائب التي ملأها أبي بالهدايا وما طلبناه منه، أنا وإخوتي وأمي، كل واحد منّا يبدأ في الإطلاع على هداياه وتجربتها، بينما يجلس هو مبتسمًا، ابتسامة الرضا التي لا زلتُ أسعى كي أمتلك مثلها يومًا ما.

ثم نكتشف، في كل مرة، أنه لم يُحضِر شيئًا لنفسه تقريبًا! نندهش، ثم نتذكر أنه دومًا هكذا: المانح الذي ينسى نفسه، ويجد سعادته ورضاه في أن يبذل نفسه من أجل أسرته.

(2)

أتأمل أحوال علاقات الزواج والارتباط العاطفي في محيطي، وأسمع من هنا وهناك، وتأتيني الرسائل أحيانًا عبر حسابي على “فيسبوك”، تروي حكايات ومشاكل من داخل البيوت، ويصيبني الحزن في معظم الأحيان؛ ليس بسبب ما أرى وأسمع من مشاكل فقط، لكنه حزن عميق سببه أنني أجد نسبة كبيرة من الرجال، الذين ينتمون لأجيالنا المتقاربة، لا يقدرون على تحمُّل مسئولية كلمة “رجل”، ولا يعرفون منها إلا بعض القشور.

ربما بسبب قصور عظيم في تربية معظم الأبناء الذكور في صغرهم؛ مما يزرع فيهم الخوف وعدم القدرة على اتخاذ القرار منفردًا، وتحمل المسئولية بشكل عام؛ وربما بسبب ما يمارسه المجتمع بشكل أوسع من قهر عام على أفراده جميعًا، بما فيهم الرجال بالطبع؛ فينكسر في المرء إحساسه برجولته مُبكرًا، ولا يبقى معه إلا الذكورة.

(3)

في الجزء الأول من ثلاثية “الأب الروحي”، يجلس الأب “دون كورليوني” مع ابنه “مايكل” جلستهم الأخيرة، قبل وفاة الأب، وفي معرض حديثه يقول للابن أنه قضى حياته يحاول ألا يكون مُهملًا، مُكرسًا حياته بالكامل لعائلته، وأن النساء والأطفال يمكن أن يكونوا مهملين، أمّا الرجال فلا يمكنهم ذلك أبدًا.

وكأن أبي هو الذي يتحدث!

(4)

دروس أبي لي لم تكن كلامًا منطوقًا، بل واقعًا ألمسه في حياته معنا، أو بمعنى أصح: حياتنا في ظله ورعايته.

علّمني أبي أن الرجولة مرتبطة بالقدرة على تحمُّل المسئولية، والقدرة على تصدُّر الصورة عند اللزوم، وأن الرجل الذي يخشى المواجهة ناقص الرجولة، مهما فعل.. وأن الرجل الحقيقي لا يمكن أن يكون شفّاف الوجود في بيته، بل يجب أن يستند الكل عليه، حتى لو كان متعبًا منهكًا؛ فالأحبة يجدون الدفء والقوة بجوار بعضهم البعض.. وأن الرجل بلا حب شريكة حياته لا يقوى على إكمال المشوار، حبٌ يغذيه البذل والعطاء المتبادل، عطاءٌ صادق لا نلتفت لحساب مقداره ولا نقارن؛ لأن طرفيه يعلمان أن كل منهما لو قدر، لمنح الآخر أغلى ما يشتهي، فقط لو أحسّ أن الآخر في حاجة لهذا الشيء.. وأن للرجل في بيته هيبة بين أبنائه، وهيبة واجبة في عينيّ شريكة حياته؛ هيبة مبعثها أن تخشى خصامه لا بطشه؛ لأنه في نظرها أفضل الرجال؛ لأنه رجلها.

(5)

كبر أبي الآن، وتراكمت السنين عليه وأثقلته؛ فزادت قائمة الأدوية التي يتعطاها بانتظام؛ للسيطرة على الأمراض المُزمنة التي يعاني منها.. ثقلت حركته، لكن روحه صارتْ أخف؛ فلم ألق إنسانًا راضيًا مثله، رضا لا ينطقه اللسان، بل أراه في حديثه وضحكاته وسكوته.

أصابه شقى السنوات الذي بذله بالتعب والإرهاق، لكنه لا يزال المبادِر الأول دومًا للعطاء والفعل في منزلنا؛ فهو أول من يسعى لحل المشكلة، صغرت أو كبرت.. هو المسئول دومًا، بمبادرته واختياره.. لا يزال يحتفظ بنفس الخجل وهو يطلب منّا أي شيء، حتى لو كان إحضار دواء من الصيدلية التي تقع على ناصية الشارع؛ كأنه يعتذر لمن يطلب منه أنه سيثقله ولو بشيء تافه كهذا.

أراه جالسًا على كرسيه المميز في الصالة، يقرأ في كتاب، أو يتابع التليفزيون، ربما يحادث أمي ويضحكان كعادتهما، أو يقف أمام حوض المطبخ يغسل الاطباق، أراه من حولنا، ومعنا؛ عمود البيت الذي لا أتخيل البيت بدونه، وأدعو الله أن يبارك في عمره وصحته.. أدعو لرجل يعلّمني يوميًا معنى الرجولة، في دروس عملية.. أدعو لرجل أحبه.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.

شارك المقال...

اضف تعليقا


اذهب إلى الأعلى