العدسة – منصور عطية

صراع احتل مساحة كبيرة من تداعيات الأحداث المتلاحقة في النطقة خلال عام 2017، نظرًا لارتباطه بملفات إقليمية ودولية متشابكة ومعقدة الأطراف.

وربما كان يتوقع كثيرون أن تندلع مواجهة عسكرية مباشرة بين السعودية وإيران، على خلفية انتقال النزاع بينهما من بلد إلى آخر، وتصاعد لهجة التهديدات المتبادلة على نحو أوحى بأن شيئًا ما سيحدث قريبًا.

لكن ظل الأمر يراوح مكانه، بين تهديدات لفظية، واشتباكات بالوكالة، وصراعات لم تكن أرضا البلدين عرضة لها طوال عام، رغم ما شهده من أحداث جسام في هذا الملف، خاصة بعد وصول الأمير محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، وما عُرف بتهوره في إدارة هذا الملف.

 

صواريخ اليمن

ولعل الحرب الدائرة في اليمن والتي تقودها السعودية ضمن تحالف عربي في مواجهة الحوثيين المدعومين من إيران، هي أبرز مواطن الصراع بين البلدين وأكثرها كلفة وحرجًا.

وخلال العام المنصرم، تواصلت عمليات “عاصفة الحزم”، دون أن تنجح السعودية في فرض هيمنتها والسيطرة على الحوثيين، الذين تتقلص سيطرتهم على الأراضي اليمنية شيئًا فشيئًا، لكن لا يزالون يتمتعون بقوة كافية.

تلك القوة انعكست على تطورات غاية في الخطورة شهدها الشهران الأخيران، ففي 5 نوفمبر، أعلنت السعودية تمكنها من اعتراض صاروخ باليستي أطلق من الأراضي اليمنية، وذلك بعدما سُمع دوي انفجار شديد بالقرب من مطار الملك خالد الدولي بالعاصمة الرياض.

التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن قال: إن “ضلوع طهران بتزويد الحوثيين بالصواريخ الباليستية التي استهدفت الرياض، عدوان عسكري سافر ومباشر من قبل النظام الإيراني، قد يرقى لاعتباره عملًا من أعمال الحرب ضد المملكة”.

التهديد كان أكثر صراحة، في بيان لقيادة قوات التحالف، قال إن السعودية “تحتفظ بحقها في الرد على إيران في الوقت والشكل المناسبين، الذي يكفله القانون الدولي ويتماشى معه، واستنادًا إلى حقها الأصيل في الدفاع عن أراضيها وشعبها ومصالحها”، وفي اليوم التالي، قرر التحالف الإغلاق المؤقت لكل المنافذ اليمنية الجوية والبحرية والبرية، بدعوى الحيلولة دون وصول الأسلحة الإيرانية.

الأمر تكرر في 19 ديسمبر، بصاروخ استهدف قصر اليمامة الملكي بالعاصمة، وتكرر أيضًا النفي الإيراني بعلاقتها بالأمر.

في المقابل، كان التحدي الإيراني حاضرًا بقوة، ولعل أحدث تجلياته ما ورد على لسان القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء “محمد علي جعفري”، بقوله إن الدعم الإيراني للحوثيين في اليمن “استشاري ومعنوي”.

ويبدو العنوان الأكبر في السعودية، بعدما قيل إنه فشل في تحقيق مآربها من الحرب، وأنها نجحت في قطع دابر المصالح الإيرانية في منطقة الجزيرة العربية، وتقليل دور إيران في المنطقة، وعدم إيجاد حزب الله آخر في اليمن شبيه بما هو موجود الآن في لبنان.

ولعل الصورة سوف تختلف كثيرًا في مستقبل الصراع بين السعودية وإيران من جانبه اليمني، بعد مقتل الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، على يد الحوثيين حلفائه السابقين، وما يمكن أن تجنيه المملكة من تحالفها الجديد مع حزب الإصلاح (إخوان اليمن)، وكذلك يتوقف الأمر على طبيعة الدور الإماراتي هناك، وما أثير بشأنه من شبهات أكدتها حقائق.

 

الحريري يشعل جبهة لبنان

وفي أعقاب إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري تقديم استقالته من العاصمة الرياض (وتراجع عنها لاحقًا)، قالت مجلة “إيكونومست” البريطانية إن السعودية وإيران تتخذان من لبنان ساحة لصراعهما وتنافسهما الإقليمي.

وأوضحت في تقرير لها، أن السعودية ضخت الكثير من المال إلى لبنان عبر العقود الماضية، لكنها فوجئت بأن حزب الله هو الذي يسيطر على مفاصل الدولة اللبنانية، وأنه صار يشكل قوة قتالية تتمدد إلى خارج لبنان، وأن “الحريري” لم يقم بالكثير لكبح جماح هذا الحزب ووقفه عن دعم طموحات إيران في المنطقة.

وأشارت إلى أن مستشار المرشد الإيراني للشؤون الخارجية “علي أكبر ولايتي”، سبق أن التقى “الحريري” أثناء زيارة رسمية إلى لبنان في نوفمبر الماضي، وأنه تفاخر بالانتصارات التي تحققت في لبنان وسوريا والعراق، ضد من وصفهم بالإرهابيين والانفصاليين.

ورأت المجلة أن الاستقالة تكشف حزب الله، وتعرض تأثيره في البلاد للخطر، مضيفة أن السعوديين يدقون طبول الحرب، وأن المسؤولين السعوديين يلومون إيران وحزب الله، في أعقاب تعرض بلادهم لهجوم صاروخي انطلق من الأراضي اليمنية واستهدف مطار الملك خالد الدولي في الرياض.

وتزايد الحديث خلال الفترة الأخيرة عن سعي سعودي لتأليب إسرائيل، من أجل شن حرب على حزب الله في لبنان، بعد أن خيرت بيروت بين حصار الحرب أو اعتبارها حكومة حرب، ليرد القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء “محمد علي جعفري”، بقوله: إن “نزع سلاح جماعة حزب الله اللبنانية غير قابل للتفاوض”.

مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، قالت إن سيطرة “حزب الله” على مجلس الوزراء الذي أنشئ في ديسمبر 2016، وتعيين ميشال عون الذي يؤيده “حزب الله” رئيسًا للجمهورية في سبتمبر الماضي، يعزز من سيطرة إيران على البلاد، قابلتها الرياض بوقف تمويل القوات المسلحة اللبنانية عبر الهبة السنوية المقدرة بنحو 3 مليارات دولار، وتأييدها استقالة “الحريري”.

وعلى الرغم من أن الجبهة اللبنانية هدأت إلى حد كبير، لكن تبقى احتمالات اشتعالها مجددًا واردة، في ظل استمرار التصعيد بين الرياض وطهران.

 

سوريا.. أم الأزمات

وفي سوريا تبدو كفة الصراع تميل لصالح طهران، التي نجحت- بعد المشاركة الفعالة لروسيا، واشتراك الميلشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية في القتال هناك- في ترجيح كفة النظام، مقابل تراجع سعودي عن دعم المعارضة المسلحة، والاتجاه لقبول فكرة استمرار بشار الأسد في الحكم لفترة انتقالية.

وكانت السعودية قد تصدرت الدول الداعمة للمعارضة السورية المسلحة، منذ تحول الثورة لصراع مسلح، وشكلت غرفة عمليات بالاشتراك مع الأردن والولايات المتحدة “غرفة الموك” (غرفة عسكرية خارجية، تديرها أمريكا وفرنسا وبريطانيا، والأردن وبعض دول الخليج، تشكلت في عام 2013، وتطورت عام 2014، وتضم فصائل عدة من الجيش الحر في مناطق من سوريا)، وكان مندوب الرياض فيها الأمير بندر بن سلطان، مقيما شبه دائم في عمان، لتنسيق إيصال شحنات السلاح للمعارضة في الجنوب السوري.

إيران استفادت من التدخل الروسي بشكل كبير، وعملت على بناء ما تصفه بـ”سوريا المفيدة”، التي تضمن لها طريقا مفتوحا من طهران لبيروت يمر بالعراق وسوريا، وبالتالي، تعزيز سيطرة النظام على المناطق السورية كافة، وبالأخص الحزام حول العاصمة، ومدن الساحل، ومحافظة حمص، عوضا عن عزل محافظات تشكل ثقلا للمعارضة، وأهمها حلب.

في المقابل، تراجع نفوذ الفصائل المدعومة من السعودية ودول أخرى، وتوقف الدعم المقدم للفصائل المسلحة في الجنوب، وأُغلقت “غرفة الموك”، وانتهى دور الأمير بندر تماما، ومثّل مشهد خروج المعارضة من حلب صورة واضحة لتغير خريطة السيطرة في سوريا.

التغير الأهم في الموقف السعودي لم يكن الميداني فحسب، بل في الموقف السياسي، فالرياض أعادت مقاربة طرحها للحل في سوريا، بحيث تقبل ببشار الأسد رئيسا لفترة انتقالية.

وثمة مشهدان حديثان، يمكنهما تلخيص واقع الصراع السعودي الإيراني في سوريا، ففي أكتوبر ظهر وزير شؤون الخليج العربي السعودي “ثامر السبهان”، في محافظة الرقة بحماية قوات سوريا الديمقراطية، التي حررت المدينة من تنظيم الدولة.

بينما تعتبر إيران الرقة “محتلة”، إلى أن يدخلها جيش النظام السوري، وذلك بالتزامن مع ظهور قائد فيلق القدس قاسم سليماني في دير الزور، الأمر الذي يشير ربما لبداية جولة جديدة من الصراع الإيراني السعودي هناك.

 

حسابات جديدة في العراق

أما في العراق، فيبدو أن السعودية تعيد حساباتها، وتدفع برهانات جديدة، وأوراق قوامها الاقتصاد في مواجهة النفوذ الإيراني، الذي تصاعد مع سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين عام 2003، وتسعى لإعادة التموقع، عبر استقطاب أطراف فاعلة، لعل أبرزها التيار الصدري، ورئيس الوزراء حيدر العبادي.

ويأتي البحث عن المعادلة السعودية الجديدة، انطلاقًا من إدراك السعوديين أن احتواء العراق أو تحييده- وهو مركز الثقل الإيراني الأساسي في المنطقة- مهم إستراتيجيا، خاصة مع الحدود الطويلة المفتوحة بين البلدين.

ويمكن فهم زيارة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الرياض في أغسطس الماضي، ضمن سياق خطة “استقطاب المد الشيعي العروبي في العراق، الذي يمثله “الصدر”، وإحداث توازن معه ومع المد الشيعي الإيراني”.

وكان لإعلان المجلس التنسيقي السعودي العراقي في الرياض، أكتوبر الماضي- بحضور العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، وبمشاركة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون- دلالات مهمة، حول الرهانات الجديدة التي تتعامل بها الرياض مع بغداد بدعم أمريكي، حيث تم الاتفاق على فتح المنافذ الحدودية، وخطوط الطيران بين البلدين، إضافة إلى إجراءات أخرى.

في المقابل، كانت إيران تتحدث بالنار، حيث طوّر الحرس الثوري قوة عسكرية مستقلة على شكل وحدات قوامها 120 ألفًا، تحت مسمى “الحشد الشعبي”، ورغم أنه ليست كل المجموعات المنخرطة بالحشد مؤيدة لإيران، لكن الجماعات الشيعية الأساسية فيه ( كتائب حزب الله، ومنظمة بدر، وعصائب أهل الحق) تتبع مباشرة للحرس الثوري الإيراني.

وتحظى كذلك بأسبقية سياسية في بغداد، فحزب الدعوة الإسلامي الحاكم يؤيد إيران، في حين أن منظمة بدر تسيطر على وزارة الداخلية، ما سمح لها بالاندماج مع القوات المسلحة الرسمية، وهو ما أفسح المجال للاستفادة من التدريب والمعدات الأمريكية.