العدسة – ربى الطاهر

لا يتخيل البعض مدى تأثير الوحدة على الأشخاص الذين يعيشونها، فهي لا تتوقف عن كونها مجرد شعور بالاكتئاب، أو سيطرة مشاعر الحزن التي قد تنجلي بعد فترة من الاعتياد، ولكنها كما أثبتت الدراسات قد تحقق الموت حرفيا.

وقام باحثون في جامعة بريجهام يونج (Brigham Young University) في الولايات المتحدة الأمريكية، بإجراء دراسة عن هؤلاء الأشخاص الوحيدين، وتوصلوا في نتائجها إلى أن الوحدة والعزل الاجتماعي قد يكونان السبب في ارتفاع نسبة الوفيات في العالم، وأن الوحدة هي خطر حقيقي محدق بهؤلاء، وقد يكون مميتا أكثر من داء السمنة.

كما كشفت الدراسة أنه برغم خطر السمنة الذي قد يسبب العديد من المشكل الصحية  لأكثر من ثلث الأفراد البالغين في الولايات المتحدة فقط ، فإن الوحدة والعزل الاجتماعي قد تصل بالوفيات المبكرة بنسب أعلى منها، حتى تصل إلى 50 %، مقارنة بأولئك المترابطين اجتماعيا، وجاءت هذه النتيجة الصادمة كجرس إنذار لإعادة النظر في المنظومة الاجتماعية، التي بدأ يصيبها التفكك حتى في دول الشرق الأوسط والدول العربية التي كانت تعتبر نفسها متميزة في التواصل الاجتماعي.

وقد أوضح الباحثون أنه كثيرا ما يحدث الخلط بين المفهومين “الوحدة” و”العزل الاجتماعي” إلا أن هناك اختلافا كبيرا بينهما، فالوحدة هي شعور الفرد بأنه لا يوجد من يتواصل معه عاطفيا، أو يشاركه مشاعره، “معزول عاطفيا” عن الآخرين، حتى لو تواجد حوله الآخرون، أما العزلة الاجتماعية فهي انخفاض نسب التواصل والاحتكاك بالآخرين بشكل كبير.

بينما أظهرت دراسات أخرى متعددة، تأثيرات مختلفة ناتجة عن الشعور بالوحدة على الصحة العامة للفرد، ومنها مثلا، ما قد أوضحته دراسة تقول بأن هناك احتمالية علاقة بين الوحدة وأمراض مثل الزهايمر،بينما أظهرت دراسة أخرى أن العزل الاجتماعي قد يصيب مرضى سرطان الثدي من عدم الاستجابة للعلاج أو التقليل من القوة لمواجهة المرض.

ولم يتوقف البحث عند الباحثين من الأطباء فقط، ولكن تناوله أيضا علماء الاجتماع، الذين قد انتبهوا إلى أخطار تأثيرات الوحدة والعزل الاجتماعي منذ فترة طويلة، وحذروا من زيادة العزلة المترتبة على شيخوخة السكان، وكذلك الأسر المفككة، وانتقدوا تلك الثقافات التي تدعم الفرد على حساب الجماعة.

وقد كشفت الإحصائيات أن أكثر من ثلث الأمريكيين وحيدون، كما أن 18% من نسبة البالغين في المملكة المتحدة، يعانون من الوحدة بشكل دائم، أو في كثير من الأحيان.

وأوضح بحث جديد قام بجمع العديد من الدراسات السابقة، وأجرى عليها “تحليلات التلوي”، و(هو تحليل في علم الإحصاء، يتبع تطبيق الطرق الإحصائية المبنية على نتائج عدة دراسات سابقة قد تكون متوافقة أو متضادة).

وجاءت النتائج لتربط بين الوحدة والعزل الاجتماعي، وبين الصحة بوجه عام، والوفاة المبكرة بشكل خاص.

وفي اجتماع للجمعية الأمريكية للطب النفسي، قدمت الباحثة “جوليان هولت لونستاد”، أستاذة الأمراض النفسية في جامعة بريجام يونج بولاية يوتا، نتائج الدراسة التي أجرتها، حيث شملت الشريحة الأولى للتحليل 148 دراسة، وكان عدد من شملهم التحليل في تلك الدراسات أكثر من 300 ألف شخص، وخلصت منها إلى أن الترابط الاجتماعي قد يخفض من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 50%.

وفي تحليل التلوي الثاني، والذي تناول 70 دراسة تم إجراؤها على 3.4 مليون شخص من عدة دول مختلفة، مثل الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا وأستراليا، توصل إلى أن بين العزلة والوحدة ارتباطا وثيقا بخطر الموت المبكر، وربما بنسبة تعادل تأثير السمنة إن لم تكن تتخطاها.

وقالت “لونستاد”: إن “الكثير من المجتمعات أصبحت تعاني من تزايد شيخوخة السكان، الأمر الذي رجح التوقعات بانعكاس هذا التأثير على الصحة العامة، وامتد هذا الخطر إلى العديد من الدول في جميع أنحاء العالم الآن، وتحول الأمر إلى الاعتقاد بأننا نواجه وباء الوحدة”.

وأرجع البحث أسباب ما تم التوصل إليه، إلى أن العزلة الاجتماعية تحدث الآن في كثير من البلدان، لأسباب اجتماعية متعددة؛ منها انخفاض معدلات الزواج، والذي بدوره يؤثر سلبا على معدلات إنجاب الأطفال، وكذلك ارتفاع نسب الطلاق، بالإضافة إلى أن الكثيرين يعيشون بمفردهم.

وقدمت “لونستاد” بعض الاقتراحات الاجتماعية، لحل مشكلة الوحدة والعزل الاجتماعي، عن طريق التحضير للتقاعد اجتماعيا وماليا، موضحة أن الكثير من الروابط الاجتماعية، ترتبط الآن بمكان العمل، حيث إنه بيئة مشتركة تشجع على التفاعل والتجمع.

كما أوصت “لونستاد”  بالتركيز على الأطفال، وضرورة تدريبهم على المهارات الاجتماعية، وكذلك تشجيع الأطباء على إدراج الترابط الاجتماعي في الفحص الطبي.

فهل تحتم علينا أن نستعد لمواجهة مرض جديد لا ينبغي الاستهانة به، حيث إننا كذلك على أبواب انتشاره، وهو وباء الوحدة (Loneliness epidemic)؟