العدسة – جلال إدريس

تتسارع الخطوات والمواقف العدائية بين نظامي مصر والسودان، رغم إعلان كليهما- بين الحين والآخر- عن حالة الود والراوبط التي تربط بين البلدين الشقيقين، إلا أن كل الشواهد تشير إلى أن الأمور بين البلدين تسير في اتجاه القطيعة والخصومة السياسية.

ولأن الملفات بين البلدين شائكة ومتعددة- كملفي “سد النهضة” و”حلايب وشلاتين”، وإيواء أفراد وقيادات بجماعة الإخوان المسلمين- فإن كلا منهما يعمل على تقوية موقفه، من خلال أوراق الضغط التي يمتلكها، محاولا استغلالها قدر المستطاع.

“طلب استبعاد السودان من مفاوضات سد النهضة”، كان ذلك آخر المطبات التي حاولت القاهرة أن توقع الخرطوم بها، خلال الأيام الماضية، حيث كشفت تقارير دولية عن أن مصر طلبت من إثيوبيا إبعاد السودان من المفاوضات بشأن سد النهضة، وإشراك البنك الدولي كطرف محايد في التحكيم.

الطلب جاء من “عبد الفتاح السيسي” شخصيا، في رسالة سلمها وزير خارجيته سامح شكري، لرئيس الوزراء الإثيوبي “هايلي مريام ديسالين”، الثلاثاء الماضي، وفقا لما ورد في صحيفة أديس فورشن الإثيوبية.

وبطبيعية الحال، فإن الخبر نزل كالصاعقة على الطرف السوداني، وأعلنت الخرطوم رفضها واستنكارها لهذا الطلب، وأكدت أنه إن صح ذلك، فلا يمكن أن يتم من الناحية القانونية التي تحكمها وثيقة إعلان المبادئ، التي وقعتها السودان ومصر وإثيوبيا، والتي تشترط مشاركة الدول الثلاث في مفاوضات السد.

لكن مصر وكعادتها سارعت ونفت ذلك، وقال المتحدث باسم الخارجية المصرية أحمد أبو زيد، في تصريحات صحفية نُشرت على موقع الوزارة، بفيسبوك: إن هذا الخبر عارٍ تماما عن الصحة، ولا أساس له.

فماذا يجري إذن؟! وهل حقا طلبت مصر من إثيوبيا استبعاد السودان من مفاوضات سد النهضة؟ وهل يمكن أن يتحقق ذلك؟ ولماذا تصر القاهرة على إشعال نار الخصومة مع الخرطوم؟ وما علاقة زيارة “أردوغان” الأخيرة للسودان بذلك؟ وإلى أين تصير العلاقة بين البلدين؟

السيسي والبشير والرئيس الإثيوبي أثناء “اتفاقية السد”

 

السد وحلايب وشلاتين

من المعروف أن ملف “سد النهضة الإثيوبي” هو واحد من أبرز الملفات التي عمقت الأزمة بين القاهرة والسودان، حيث تشعر القاهرة دائما أن السودان تنحاز إلى الجانب الإثيوبي في هذا الملف؛ نظرا للامتيازات التي قد تحصل عليها الخرطوم حال اكتمال هذا السد.

وبرغم توقيع مصر على اتفاقية المبادئ المشتركة مع السودان وإثيوبيا، في 2015، وهي الاتفاقية التي روج لها الإعلام الرسمي في مصر بأنها حفظت حق مصر التاريخي في مياه النيل، حيث توفر الاتفاقية إطارا لالتزاماتٍ وتعهداتٍ تضمن التوصل إلى اتفاق كامل بين الدول الثلاث، حول أسلوب وقواعد ملء خزان السد وتشغيله السنوي، بعد انتهاء دراسات مشتركة قيد الإعداد، بحسب وزارة الخارجية المصرية.

إلا أنه- وعقب توقيع تلك الاتفاقية بأشهر قليلة- ظهر النظام  المصري وكأنه تورط في تلك الاتفاقية، وبدأت الأمور تتضح شيئا فشيئا، لتبدو الصورة وكأن السيسي تنازل عن حق مصر التاريخ في مياه النيل بتلك الاتفاقية.

ومنذ تلك الاتفاقية بدأت العلاقات بين مصر والسودان في التوتر الشديد، في حين أنها بين مصر وإثيوبيا بدت هادئة في كثير من الأوقات، وغالبا ماتستعمل القاهرة لغة هادئة في مقابل التصريحات الخشنة من الجانب الإثيوبي.

التوتر المصري السوداني المتعلق بسد النهضة، انعكس بطبيعة الحال على ملف “حلايب وشلاتين”، حيث حاولت كل من الدولتين انتهاج سياسية الأمر الواقع، فالسودان تعلن بسط نفوذها على أجزاء واسعة من حلايب، والقاهرة تبدأ في استفزاز السودان عسكريا عبر الحدود.

وهكذا استمرت الأمور على مدار العامين الماضيين، فيما لم تفلح الزيارات المتبادلة بين “السيسي” و”البشير” وبين وزيري خارجية مصر والسودان، في تهدئة  الأمور بين البلدين.

” زيارة أرودغان للسودان ولقاء البشير “

 

زيارة “أردوغان” للسودان

الزيارة التي قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا إلى السودان، زادت من حجم الأزمة بين القاهرة والخرطوم، إذ لا يخفى على أحد حجم الخلاف بين أنقرة والقاهرة، وهو ما جعل الأخيرة تفكر بأن زيارة “أرودغان” للسودان هي جزء لا يتجزأ من النكاية السياسية للبلدين.

ورغم أن زيارة “أردوغان” التاريخية للسودان، تحمل أبعادا إستراتيجية للدولة التركية، أكبر بكثير من نكاية مصر سياسيا، إلا أن الزيارة أزعجت القاهرة بشكل كبير، وشن الإعلام الرسمي الموالي لـ”عبد الفتاح السيسي” هجوما لاذعا على السودان وأنقرة في آن واحد، وأعاد من جديد إحياء ملف “حلايب وشلاتين”.

ازادت الأمور تعقيدا بين مصر والسودان، بعدما أعلن الرئيس التركي “أردوغان” تخصيص السودان لجزيرة “سواكن” السودانية على البحر الأحمر، لكي تتولى تركيا إعادة تأهيلها وإدارتها لفترة زمنية لم يحددها، وهذا ما اعتبرته القاهرة ودول عربية أخرى، مربط الفرس الإستراتيجي الخطير في الزيارة.

ما إن أعلن “أردوغان” عن وضع تركيا يدها على جزيرة “سواكن” حتى جن جنون نظام السيسي، فعاد إعلام السيسي فشن هجوما جديدا على الخرطوم، واعتبر أن الزيارة تستهدف مصر، وأنها ضربة للأمن القومي المصري عبر البوابة الجنوبية، لاسيما بعد أن فتحت الزيارة المجال للتعاون العسكري بين الخرطوم وأنقرة، حسب ما أدلى به وزير الخارجية السوداني، إبراهيم غندور.

وزارة الأوقاف المصرية التابعة لحكومة السيسي، قررت الدخول على خط الصراع، حيث قرر التليفزيون المصري نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد “التوبة” بمدينة حلايب، في خطبة يلقيها محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، وبعدها أعلنت الأوقاف عن بث برنامج تليفزيوني وإذاعي بشكل أسبوعي من حلايب وشلاتين، لتعزيز روح الانتماء للوطن والدعم الإعلامي المتواصل للأهالي هناك.

رد الإعلام المصري ووزارة الأوقاف، كان موضع انتقاد وسخرية من قبل نشطاء ومراقبين، حيث أكدوا أن مصر لا تتذكر حدودها الجنوبية، إلا حين ترغب في مساومة السودان أو استفزازها سياسيا.

” سامح شكري “

 

طلب استبعاد الخرطوم

ما إن انتهت زيارة “أردوغان” للسودان، حتى أعلنت وزارة الري السودانية أنها فوجئت بطلب مصر بإبعاد السودان عن مفاوضات سد النهضة، لتنضم تلك الخطوة إلى خطوات سابقة في عملية الصراع والتشابك بين البلدين.

وبينما نفت الخارجية المصرية، في تصريحات على لسان متحدثها الرسمي، طلب مصر استبعاد السودان من مفاوضات سد النهضة، نقلت وسائل إعلام سودانية عن مصادر إثيوبية- دون أن تذكرها- أن “عبد الفتاح السيسي” طلب بدء مفاوضات ثنائية حول سد النهضة، برعاية البنك الدولي، بصفته جهة محايدة، واستبعاد السودان من المفاوضات، الأسبوع الماضي.

وزارة الري السودانية، علقت على الخبر بقولها إنه “لم يصلهم أي إخطار رسمي بذلك”، مشيرة إلى أن” الطلب المصري، إن صح، فإنه لا يمكن أن يتم من الناحية القانونية التي تحكمها وثيقة إعلان المبادئ، التي وقعتها السودان ومصر وإثيوبيا، والتي تشترط مشاركة الدول الثلاث في مفاوضات السد”.

الجدل حول تقديم الطلب ونفيه، جاء بالتزامن مع زيارة قام بها سامح شكري، وزير الخارجية المصري، لأديس أبابا، في إطار التشاور المستمر بين حول سد النهضة، لتكون زيارته هي الرابعة من نوعها  لإثيوبيا.

” البنك الدولي “

 

لماذا ترفض إثيوبيا وساطة البنك الدولي؟

فيما مقابل ذلك، نقلت صحيفة “أديس فورشن” الإثيوبية عن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية “مليس علم” قوله: إن المباحثات التي أجراها “شكري” ركزت على مسائل التجارة والاستثمار والإرهاب.

لكن ووفقا للصحيفة نفسها، فإن إثيوبيا نفسها أبدت رفضا قاطعا لاستبعاد السودان من تلك المفاوضات، حيث أكدت مصادر قريبة من ملف السد- حاورتها صحيفة “أديس فورشن”- أن إشراك البنك الدولي باعتباره حكما في المباحثات بين الدول الثلاث، إثيوبيا ومصر والسودان، أو إقصاء السودان منها، يُعد أمرا غير مقبول لإثيوبيا.

وأضافت المصادر أن “موقف إثيوبيا ثابت، وهو أن الأطراف الثلاثة قادرة على التعامل مع أي خلاف فني، دون تدخل طرف ثالث”.

وأثار خبراء إثيوبيون الشكوك إزاء حيادية البنك الدولي في القضية، مستدلين في ذلك بعدد من المبررات، من بينها الخوف من نفوذ محتمل لمسؤولين مصريين كبار في البنك الدولي، من أمثال إسماعيل سراج الدين، الذي شغل من قبلُ منصب نائب الرئيس فيه، وسبق أن أبدى رأيه في دول منبع النيل.

وبين كل الأحداث السابقة، يبقى ملفا “سد النهضة” و”حلايب وشلاتين” عالقين بين مصر والسودان من جهة، وبين ومصر والسودان وإثيوبيا من جهة أخرى، لتكشف الأيام القادمة إلى أين تسير الأمور في هاذين الملفين الهامين.