العدسة – جلال إدريس
“تحت أمرك يافندم، شوف حضرتك عاوزني أقول أيه بالظبط وأنا هقوله”، ربما كانت تلك الكلمات الصادرة من “سعيد حساسين” المذيع بإحدى القنوات الفضائية في مصر، مع ضابط المخابرات المصرية الذي يمليه مايقوله على شاشة التليفزيون فيما يتعلق بقضية القدس، هي ملخص يعبر عن وضع الإعلام المصري في الآونة الأخيرة.
(تحت أمرك يافندم) عبارة رددها أغلب الإعلاميين الذين وردوا في تسريبات قناة “مكملين” التي أذاعتها أول أمس، أثناء حديثهم مع ضابط المخابرات، لتعكس بشكل واضح عن توجه الإعلام في مصر، ويوضح بصورة مباشرة من “يدير الإعلام في مصر”.
ولأن الإعلام هو من يتحكم في صناعة الرأي العام، فإن دولة السيسي حرصت، بعد الثالث من يوليو، على السيطرة والهيمنة عليه بشكل كامل، سواء من خلال أوامر مباشرة يتم توجيهها للإعلاميين، أو من خلال السيطرة على المحطات التليفزيونية المختلفة، عن طريق شركات إعلامية تابعة لأجهزة أمنية واستخباراتية.
تسريبات “مكملين” الأخيرة، أعادت للأذهان الحديث عن الأذرع الإعلامية لدولة (3 يوليو)، وهي الأذرع التي كانت قد كشفتها تسريبات أخرى بين المتحدث العسكري السابق أحمد علي، وبين مدير مكتب السيسي عباس كامل، وهو الأمر الذي يطرح السؤال القديم الجديد، من يدير الإعلام في مصر؟
التسريبات الأخيرة
التسريبات الأخيرة التي أذاعتها قناة “مكملين” وعدد آخر من القنوات، توضح النفوذ الطاغي لجهاز المخابرات بشقيه (العامة والحربية) في الإعلام المصري، حيث بثت “مكملين” تسريبا صوتيا لاتصالات جرت بين ضابط بالمخابرات برتبة نقيب، يسمى أشرف الخولي، وبين الفنانة يسرا وعدد من الإعلاميين المصريين المؤيدين لنظام السيسي، وهي الاتصالات التي أشارت إليها في تقرير موسع صحيفة: نيويورك تايمز″ الأمريكية.
“الاتصالات” كانت بين النقيب الخولي وبين الفنانة يسرا، والإعلامي مفيد فوزي وسعيد حساسين (برلماني وإعلامي)، وعزمي مجاهد (إعلامي)، وكان أهم ما جاء فيها التمهيد لتقبل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، حتى يتم إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتجنيب الفلسطينيين ويلات الحرب، على حد زعم النقيب الخولي.
التسريبات أظهرت الإعلاميين المصريين وهم يتلقون الأوامر بأدب جم!، وينصتون تماما لما سيملى عليهم، وما سيقال على شاشة التليفزيون، كما أنها رصدت أن للدولة المصرية توجهات علنية غير التوجهات الخفية، خصوصا فيما يتعلق بقضية القدس.
لكن اللافت في الأمر بعد إذاعة التسريبات، هو الصمت في وسائل الإعلام المصرية إلى الآن، سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية، كأن لم تسمعها، وهو الأمر الذي يثير الجدل، ويزيد الغموض حول هيمنة الأجهزة الاستخباراتية على الإعلام المصري.
السيطرة بدأت مبكرا
ووفقا لمراقبين فإن التخطيط للسيطرة على قنوات الإعلام في مصر بدأت مبكرًا، عندما كشف «السيسي» عن رؤيته لمنظومة الإعلام التي يرتضيها، وهو ما عبّر عنه صراحة حين قال: «عبد الناصر كان محظوظًا لأن الإعلام كان وراءه»، أو بشكل غير مباشر، عندما أذيع تسريب صوتي منسوب له يتحدث فيه عن «أذرع إعلامية ممتدة تخدم مصالحه».
ومن المعروف أن الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر»، كان يوصم بأنه كان «تعبويا وتحشيديا وإعلام الصوت الواحد»، وذلك خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات على وجه الخصوص.
وتمكن النظام من تنفيذ إستراتيجيته للسيطرة على الإعلام، من خلال قصْر امتلاك القنوات الفضائية والصحف على مجموعة من رجال الأعمال الموالين له.
لماذا يخشى السيسي الإعلام؟
وعلى مايبدو أن إصرار السيسي على إحكام قبضتة على الإعلام ناتج عن خوفه الشديد منه، ومن تأثيره على الرأي العام، وربما يفسر ذلك إسراعه بإغلاق جميع القنوات المحسوبة على التيار الإسلامي المعارض، عقب تحركات الجيش التي قادها ضد الرئيس “محمد مرسي” في الثالث من يوليو 2013.
خوف السيسي من الإعلام سبق أن دفعه إلى عمل دعاية مجانية دون قصد، لعدد من المواقع والقنوات المعارضة التي تبث من الخارج، إذ تحدث السيسي محذرا من عدد من القنوات التليفزيونية قبل انطلاقها، وهو ما اعتبره مراقبون دعاية مجانية غير مقصودة من السيسي لتلك الوسائل الإعلامية، خاصة بعد توجه كثير من المصريين لمشاهدة هذه الوسائل الإعلامية للتعرف على سبب خشية السيسي منها.
لكن في المقابل، فإن خوف السيسي من الإعلام، دفعه لتمكين أقرب الرجال إليه من مفاصله، ولا يرضى حتى بسيطرة الموالين له إذا لم تكن ثقته فيهم تامة، بحيث لا يصبح صوتا في القاهرة «فضائيا» إلا وهو مملوك ويدار بصفة مباشرة من رجال السيسي المقريبن المضمون ولاؤهم، وهو ما يعني أن صوتا واحدا لأي قناة كبيرة أو صغيرة يعارض السيسي لن يكون موجودا، بل سينتهي الأمر بعودة إعلام الصوت الواحد، والنغمة الواحدة.. “تون واحد” لن تجد فيه نشازا يضايق آذان السلطة الحاكمة في مصر.
إعلام الصوت الواحد
ومنذ منتصف 2015، بدا واضحا أن الدولة قد ضاقت ذرعا بعدد من الإعلاميين المصريين ومقدمي برامج التوك شو، بعد سلسلة من الانتقادات الناعمة وجهها بعض الإعلاميين لسياسات الحكومة والرئيس عبد الفتاح السيسي.
غضب السلطة في مصر من مقدمي التوك شو، انعكس على الكلمة الشهيرة الموجهة من الرئيس عبد الفتاح السيسي للإعلاميين، في نوفمبر 2015، والتي قال فيها: “ميصحش كدة” في إشارة منه لانتقاد بعض الإعلاميين لتصرفات الرئيس.
وخلال العام نفسه والعام الذي تلاه 2016، بدأت سلسلة من إغلاق البرامج و”تسريح” إعلاميين، ربما كان لهم صوت مخالف بعض الشيء لسياسيات السلطة.
يسري فودة، ومحمود سعد، وريم ماجد، وليليان داوود، وعمرو الليثي، وتوفيق عكاشة، وأخيرا إبراهيم عيسى، جميعهم أغلقت برامجهم، وتوقفوا عن الظهور في الفضائيات المصرية بأوامر من جهات سيادية عليا.
وعلى الرغم من مواقف هؤلاء الإعلاميين المؤيدة والمناصرة لتحركات الجيش في 3 يوليو، وما تلاها من مجريات وأحداث، إلا أن ذلك لم يشفع لهم عند السلطة حين قرروا أن يكون لهم رأي قد يكون مخالفا بعض الشيء للتوجهات العامة للسلطة.
رجال الأعمال والمخابرات
وفي إطار عملية إحكام السيطرة على وسائل الإعلام، شرع نظام السيسي إلى تلميع مجموعة من رجال الأعمال وسمح لهم بالسيطرة والنفوذ وامتلاك كافة وسائل الإعلام الخاصة، وجعل التعيين في تلك القنوات من خلال هؤلاء الرجال، كما أنه سمح بدعمهم بشكل واسع من قبل جهاز المخابرات الحربية في الباطن.
وتماشيا مع ذلك انطلقت، في منتصف يناير الماضي، مجموعة قنوات «دي إم سي» الفضائية المصرية الخاصة، المملوكة لرجل الأعمال المصري «طارق إسماعيل»، وبدعم خفي من المخابرات الحربية المصرية، بحسب ما يشاع في الشارع الإعلامي المصري.
ويشارك في تمويل تلك القنوات «ياسر سليم» ضابط المخابرات السابق، والذي يملك موقع «دوت مصر» مع رجل الأعمال «أحمد أبو هشيمة».
و«أبو هشيمة» أو مجموعة «إعلام المصريين»، يملك أيضًا صحف «اليوم السابع»، إضافة إلى مجموعة قنوات «أون تي في» وأسهم بقناة «النهار»، وموقع «دوت مصر»، وجريدة «صوت الأمة»، وتواردت أنباء مؤخرًا عن شرائه صحيفة «الأسبوع».
أبو هشيمة وطارق إسماعيل ليسا الوحيدين، لكن رجل الأعمال محمد أبو العنين صاحب قنوات صدى البلد، وأحمد بهجت صاحب قنوات دريم، وغيرهم من رجال الأعمال باتوا تماما خاضعين لسيطرة أجهزة المخابرات، ومن يخالف ذلك فإن مصيره ظهور الملفات الخاصة به أمام النيابة العامة.
إحلال وتبديل
ومع ربط الأسماء التي وردت في تسريب “مكملين” الأخير، وتسريبها الذي بثته عام 2015، والذي كان حوارا بين “مدير مكتب السيسي عباس كامل، والمتحدث العسكري السابق أحمد علي” وكان ملخصه عبارة عن توجيهات سيتم النزول بها للإعلاميين في مصر، يتضح أن النظام قام بعملية إحلال وتبديل للإعلاميين.
فتسريب مكملين في 2015، ظهرت فيه أسماء: “إبراهيم عيسى، وأحمد موسى، ووائل الإبراشي، ورولا كامل، ويوسف الحسينسي”، أما التسريب الأخير، فقد ظهر فيه أسماء أخرى، كعزمي مجاهد، وحساسين، ومفيد فوزي”.
بالمقارنة يتضح أن النظام يعمل كل فترة على تجديد رجاله في الفضائيات، وذلك لضمان ولاء الجميع، دون أن يخرج أحدهم عن الخط المرسوم.
ويكون التحكم في هؤلاء الإعلاميين، عن طريق التحكم في المحتوى الإعلامي الذي يُراد تقديمه على القنوات الحكومية والخاصة، ومن ثم اختيار الإعلاميين بدقة لتوصيل ذلك المحتوى للجمهور، فمن خلال معايير محددة مسبقًا، يتم اختيار المذيع أو المذيعة الذي سيكون هو الصوت الرسمي الممثل للسلطة المصرية الحاكمة، والمدافع عنها وعن سياستها.
الطريقة الثانية والأكثر فعالية على ما يبدو، هي التحكم في الإعلاميين من خلال نقاط ضعف لهم، يتم رصدها بعناية وتجميعها في ملفات خاصة، يتم استخدامها عند الحاجة.
فمن خلال فضائح ما، أو زلات يتم تسجيلها وحفظها، يمكن للسلطة من خلالها أن تتحكم في نخبتها من الإعلاميين والمثقفين والمشاهير، وهذه هي الطريقة المخابراتية الأشهر في العالم، التي يمكن للسلطة الحاكمة أن تسيطر بها على من تشاء وما تريد، حتى ولو كانوا من معارضيها.
وأخيرا فإن كل ماسبق يؤكد أن الأجهزة المخابراتية هي من تدير الإعلام بشكل كامل في مصر، دون أن يكون للمؤسسات الإعلامية كالهيئة الوطنية للإعلام أو اتحاد الإذاعة والتليفزيون دخل في ذلك، حيث إن تلك المؤسسات ذاتها تملى عليها التوجهات عن طريق الأجهزة الاستخباراتية نفسها.
اضف تعليقا