تكمن المشكلة الرئيسية في أن الإحساس الدائم بالظلم مريح، مريح لدرجة مُرعِبة؛ مما يُسهِّل على صاحبه الخطوة التالية:

إدمان دور الضحية، والتوحُّد معه؛ فلا يرى العالم إلا من خلال هذه الكوّة الضيقة، ويُفسَر كل ما يحدث له، وبالتبعية معظم ما يجري في العالم كله، من مُنطلق كونه المظلوم الأبدي، الذي لا يكف العالم أجمع عن التكاتف لتأكيد ظلمه، يومًا بعد يوم.

بالإضافة إلى الإحساس الداخلي الهائل بالعظمة، الذي يمنحه دور الضحية لصاحبه؛ فيمتلئ باقتناع صادق- مُزيَّف غالبًا في حقيقته- بأنه من العظماء الذين لن يشعر أحد بقيمتهم إلا بعد موتهم، وأن هذا العالم القذر لا يستحق عبقريته النادرة.

للوقوع في فخ إدمان دور الضحية لذة استشهادية لا ريب فيها لصاحبه، وعذابٌ مقيم للمُقرَّبين منه.

(2)

إن لم يكن قد مرَّ بحياتك مَن ينتمي لهذا النموذج؛ فاعتبر نفسك من ذوي الحظ العظيم.

مهما فعلتَ من أجله، لن ترضيه.. مهما منحته من حبك واهتمامك ورعايتك ووقتك، لن يَشعر أبدًا بالمحبة التي تظهرها له وتؤكدها قدر ما تستطيع في تصرفاتك؛ سيُشعِرك دومًا أنك غير كاف له، مهما اجتهدتَ؛ فأفعالك غير كافية لإرضائه.. إحساسٌ زائف يملؤه بأنه المظلوم الذي لا يُمنَح أبدًا ما يستحق من المُقرَّبين له.. يرى في أفعاله البذل العظيم، حتى وإن كان- في واقع الأمر- شحيح العطاء؛ حتى لو كان- بأفعاله- لا يستحق كل هذا الحب.

مما عشت وعايشت، أجد أن البقاء بقرب مَن أدمن دور الضحية من أصعب ما يكون؛ فهو صديق لا ينفك يُشعِرك بأنه يستحق أفضل منك، وشريك عاطفي بخيل العطاء؛ لأنه لا يشعر بجمال عطائك له، مهما بذلتَ.. البقاء بجوار مَن هجروا الشعور بالرضا هُجرانًا مُبينًا يبدو مستحيلًا، مهما جاهدت.. حتى وإن كان قلبك يرفض ما يخبره به عقلك؛ الذي يدرك في مرحلة ما أن أوان الرحيل قد حان.

ومنذ متى يستمع القلب لصوت العقل والمنطق؟

ليت الأمر كان هكذا!

(3)

لستُ ممن يظنون أن الحياة عادلة أبدًا.

على العكس، أؤمن أنهار دار ابتلاء واختبار، الظلم فيها يفوق العدل أضعافًا.. لا أعتقد في انتصار الخير في النهاية؛ فربما ينتهي الفيلم دون أن يتزوج البطل الطيب من الأميرة الجميلة؛ غالبًا سيُقتَل البطل بأيدي بعض الأوغاد، وستبكي الأميرة فوق جثته المُدرجة بالدماء.

لو كانت دارًا لإقرار العدل المطلق، ما جعل الله يومًا للحساب، تُرد فيه الحقوق لأصحابها، ويُجزى كل ابن آدم بما فعل.

نعيش في عالم يحكمه لفيفٌ من اللصوص والقتلة والمحتالين والمعتوهين، في حقبة تاريخية يبدو فيها الإنسان حيوانًا مسعورًا

يُشهر سكينًا، يلوِّح بها في الهواء، تقوده هواجس الخوف من الوحدة والفقر والموت؛ يخيف غيره كي يشعر ببعض الأمان المُزيَّف.

لستُ من دعاة التفاؤل المُطلق، لكنني من أرباب مدرسة المحاولة، والسعي، والمزيد من السعي.. أؤمن بأن القشّة قد تنقذ الغريق، بالرغم من ضآلة هذه الاحتمالية؛ فالإيمان بجدوى السعي هو السلوك الوحيد الذي يعطي لحياة الإنسان قيمة، في مواجهة كل هذا القبح السائد، ويساعده على إدراك معنى وهدف لوجوده مع مرور الوقت، حتى وإن تأخرتْ النتائج.

السعي والاجتهاد في مسالكه، قيمة لا يراها مَن يدمن دور الضحية، وينغمس فيه.. تجده يرى قيمة مضاعفة مُزيَّفة لنفسه، ربما يخدع نفسه بامتلاك موهبة عظيمة، فقط لأنه لم يختبر بصدق حقيقة امتلاكها من عدمها؛ لأن مخدر الضحية يلعب دوره، ويوفر له إحساسًا وهميًا بالتفوُّق.

يخطئ بعض المقربين منه ويظنون أن دعمه في أفكاره وهواجسه مساعده له، وهم لا يدركون أنهم هكذا يقضون عليه ببطء.. وأنهم هم أنفسهم عن قريب سيملّون اللعبة، مهما بلغ حبهم له؛ فالبقاء بصحبة مَن أدمن المظلومية ظلمٌ لا يستطيع المرء الصبر عليه؛ سيجئ اليوم الذي ينتصر فيه صوت العقل على صاحبه، ويحين وقت الرحيل.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأس صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة