اهتم المسؤولون البريطانيون أثناء الحرب العالمية الأولى بلقاء القيادات العربية الفاعلة لتقييم شخصياتهم، وتحديد كيفية التعامل معهم. ومن ضمن تلك القيادات كان الشيخ “محمد رشيد رضا” صاحب الجهود الإصلاحية البارزة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

العصا البريطانية

التقى الدبلوماسي البريطاني “مارك سايكس” الذي اشتهرت اتفاقية (سايكس بيكو باسمه) بالشيخ رضا. وعقب انتهاء اللقاء رفع سايكس في 14 يوليو 1915  تقريرا بمجريات النقاش وتقييماته لشخصية الشيخ إلى مدير العمليات العسكرية بوزارة الحربية بلندن قائلا ( الشيخ رشيد رضا هو أحد زعماء فكرة الجامعة الغربية والجامعة الإسلامية….مسلم صعب ، متعصب، لا يتساهل، وتنطلق أفكاره من باعث رئيسي هو التوق لتحويل الإسلام إلى قوة سياسية في أوسع مجال ممكن.  إن غطرسته الفكرية في تقديري يمكن أن تعزى بالدرجة الأولى إلى الاعتقاد بأن بريطانيا العظمى تخشى الإسلام، وأن السياسة البريطانية يجري تخطيطها أولا وقبل كل شيء لاستمالة الرأي العام الإسلامي ..  وعلى الرغم من دماثة خلقه وحسن سلوكه، فلا يسعني وصف موقفه إلا بأنه مشاكس….والواقع أنه كانت تسيطر عليه فكرة خيالية هى أن الإسلام كيان دولي مستقل ، وأن المسلمين يستطيعون أن يملوا على بريطانيا سياستها بلهجة تكاد تشبه لهجة الفاتحين، وأنه لا يستطيع أن يحمل نفسه على تقديم أي تنازل أو تبني أي أمل في صداقة فعلية أو ولاء من جانب المسلمين…لقد بات واضحا أن من المستحيل التوصل إلى أي تفاهم مع أناس يحملون أفكارا كهذه، وإزاء جماعة من هذا القبيل يمكن القول بأن القوة هى الحجة الوحيدة التي يمكن أن يفهموها).

الجزرة السعودية

على الطرف الآخر نجد أمير نجد “عبدالعزيز بن سعود” أدرك مبكرا أهمية الشيخ رضا في التأثير على الوعي العام الإسلامي، فحرص على مد جسور العلاقات الطيبة معه، وتطمينه بشأن نوايا السياسة السعودية، وإشعاره بأنها تنطلق من أرضية إسلامية خالصة، في حين أنها كانت تتم  بالتنسيق مع بريطانيا.

إذ يذكر الموفد البريطاني إلى نجد “الكابتن شكسبير” طبيعة علاقاته مع  أمير نجد  في  رسالة بتاريخ ٢٦ يونيو ١٩١٤ أرسلها  إلى وزارة الهند  التابعة للتاج البريطاني  قائلا (نظرا لعلاقتي الحميمة جدا مع عبدالعزيز وسائر عائلته؛ فقد أطلعني مرارا على المراسلات السرية المتبادلة

بينه وبين الزعماء العرب الآخرين؛ ومنهم السيد محمد الإدريسي ، والإمام يحيى في صنعاء ؛

وابن شعلان كبير شيوخ قبيلة عنزة ..كما أطلعني على مراسلاته مع السلطات التركية).

وفي الوقت الذي كان فيه ابن سعود  يتعهد لبريطانيا بالولاء التام قائلا في رسالته إلى القنصل البريطاني العام بالخليج “بيرسي كوكس” في نوفمبر 1914 (إنني واحد من أكبر أعوان حكومة بريطانيا العظمى التي ستحصل بعون الله مني على نتائج مرضية) كان في نفس الوقت يقول كلاما مختلفا تماما لرشيد رضا، إذ أرسل له رسالة في سبتمبر 1914 قائلا ( نعم يا سيدي الجليل الفاضل، إنك تمحصنا النصح وتحذرنا بإخلاص بسبب حرصك على الإسلام وغيرتك على ديننا وشرفنا العربي… فلنكن حذرين من النتائج الشريرة للوقوع في أحابيل السياسة والدسائس الأجنبية والمغامرات السياسية التي تعرفها. وإننا الآن كما أخبرتكم في كتابي السابق ، لا نتردد في القول أو العمل على اتخاذ كافة الإجراءات الوقائية لنغلق في وجه التدخل الأجنبي الأبواب التي هى مفتوحة من جميع الجهات. كما أننا لا نألو  جهدا في اتخاذ الاستعدادات لحماية ذلك الجزء الذي هو ضمن سيطرتنا وفي خارجها في جزيرة العرب من مكائد أعدائنا التي تدبر من الخارج… لتكن لك ثقة بالإجماع القائم بين زعماء جزيرة العرب على تأسيس وحدة الإسلام وحماية جزيرة العرب كما أكدتها لك من أولها لآخرها).

انطلت الحيل السعودية على الشيخ رشيد رضا، فدعم ابن سعود أثناء تأسيس مملكته المنشودة، وطبع  الشيخ ونشر  كتب أئمة الدعوة النجدية على نفقة ابن سعود، مثل كتاب (الهدية السنية والتحفة الوهابية) لسليمان بن سحمان، كما ألف بنفسه كتاب (الوهابيون والحجاز) للرد على شُبه أعداء الحركة الوهابية. كما أوفد تلميذه “عبدالظاهر أبو السمح”  ليؤم المصلين بالمسجد الحرام عام 1925 ، بينما تولى تلميذه الآخر “عبد الرزاق حمزة” إمامة الحرم المدني عام 1928.

 

هذه النزعة الوهابية السعودية لم تنطل حقيقتها على الإنجليز، وأدركوا دوافعها مبكرا ، إذ جاء في مذكرة أعدتها دار المعتمد البريطاني في مصر  بخصوص التنافس بين شريف مكة  “الحسين بن علي” وأمير نجد “عبدالعزيز بن سعود” بتاريخ 23 ديسمبر عام 1917 ( يواظب الشريف عن طريق الذهب البريطاني على شراء كل ما يمكن شراءه من عشائر ابن سعود وكسب ولائها إلى جانبه… بينما ابن سعود يلهب نيران الحماسة الوهابية كموقف ضروري ولكنه خطر مقابل ذهب الشريف ومعداته العسكرية).

هذه اللقاءات والمراسلات المذكورة ضمن وثائق الأرشيف البريطاني تثبت أن الدعوة الوهابية في عهد الدولة السعودية الثالثة، استخدمت كوسيلة لاجتذاب دعم العلماء والمصلحين وترسيخ الشرعية الدينية للدولة الوليدة في حس قبائل الجزيرة العربية،  دون أن يكون لها حضور وتأثير حقيقي على السياسات السعودية التي كانت تجري بتنسيق مع بريطانيا العظمى.

المصادر

الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (نجد والحجاز) – ترجمة “نجدة فتحي صفوة” – المجلدات الأول والثاني والثالث – ط. دار الساقي.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العدسة