كنتُ طفلًا في العاشرة من عمري، حين ناداني أبي وسألني ماذا تفعل الآن فأجبتُه أنني أذاكر، طلب مني تركَ المذاكرة والجلوس بجوارِه لأشاهد معه “فيلم”! كانت هذه صدمة لي.. ليس لطلبه ترك المذاكرة! لكن لأن بيتنا لا تُفتح فيه إلا قناة الجزيرة وقناة سبيستون، إذ كانت الأفلام والمسلسلاتُ جريمةً لا يُسمَح بمشاهدةِ لقطةٍ واحدةٍ منها، وبناءً على ذلك، كانت نظرتي القاسية إلى كل هذه البيوت التي حين تمر بجوارها تسمع صوت التلفزيون مفتوحًا على مسلسلٍ أو فيلم؛ كيف يجرؤون! ثم الآن -يا مثبّت العقل والدين يا رب- ماذا حدث لأبي؟! أستغفر الله.

تركتُ الأسئلة المستنكرة وقررتُ متابعة الفيلم، مراقبًا بين المشهدِ والآخرِ تفاعل أمي وتعليقات أبي. يقول: “هكذا كان يفعل عبدالناصر بالإسلاميين والشيوعيين”.. “هكذا كان التعذيب في السجون”.. “هكذا كان الكذب في حرب النكسة”.. ويشرحُ لي المشاهد ورمزية شخصياتها وإلى ماذا تشير ومَن تقصد؛ كان الفيلم: “إحنا بتوع الأتوبيس”. لم يكن يكتفي بالمشاهدة والتحليل وإنما يتحدّث عن الممثلين وعن صراعات هذا مع الدولة وعن رسالة ذاك وعن موالاة الآخر للسلطات مبدّلًا جلدَه كالثعبان؛ ليعيش حياتَه ممثّلًا حتى خارجَ عدسة الكاميرا أو خشبة المسرح. فهمت حينها أن الأفلامَ لم تكن ممنوعةً في البيت، حين تكرر نداءُ أبي في “البريء” و”عسل أسود” وغيرهما، وحين كنا نتجمّعُ على العشاء نتابع مسلسل “التغريبة الفلسطينية” أو “عائد إلى حيفا” أو “فارس بلا جواد”، وحين كنا ننتظرُ مواعيد عرض مسرحيات “طريق السلامة 2000″ و”ماما أمريكا” وأخواتهما.

لم تكن العلّة إذَن المنع والحجب بحدّ ذاتِه؛ وإنما لانعدام المنتَج الذي تصلح مشاهدته، وحين وُجِد المنتَج لم يدّخر أبي جهدًا في أن يناديَني ويشرح لي ويتركني أستنتج ويسألني حتى صرتُ أنا الذي أناديه لينضمّ إليّ إن وجدتُّ شيئا كهذا قدَرًا؛ فكرهتُ العسكرَ من الأفلام، وأحببتُ فلسطين من المسلسلات، وفهمتُ السياسة من المسرحيات.

منذ أيام، بدت بوادر عملٍ فنّيٍّ جديد يشارك فيه فنانون مشهورون، وتنبّأ الناسُ بما سيكون عليه من قبل أن يخرج إلى دور العرض؛ ولا أرى هذا تعجّلًا في الحكم؛ لأنه من الطبيعيّ أن يتنبّأ الجميعُ بمولودٍ مشوّه طالما أدمنت أمه المخدّرات وتغذّت على كل ما يضرّ صحة جنينها؛ فلا ضيرَ إذَن من الحكم المسبّق ولا جُرم على الحاكمين والمحاكِمين.
يسعى النظامُ جاهدًا إلى الوصول بالفنّ إلى قلوب العامّة، وهو يعلمُ جيّدًا قيمة السينما والدراما في تصوير التاريخ أو تزويره؛ فعمدَ إلى إنتاج دراما وسينما تجمّل في القلوب والأنظار صورتَه القبيحة، وهو يعلمُ تمام العِلم أن رسالته ليست موجّهةً إلى جيل الشيوخِ الذين يوالونه بلا حاجة إلى الأفلام، ولا إلى جيل الشباب الذي لن يقتنع بها أصلا؛ وإنما يوجهها إلى جيلٍ قادمٍ على الفطرة، سيسألُ عن الماضي؛ فيجد الماضيَ ملخّصًا في ساعتين؛ يستقبلهما بلا تنقية، ويؤمن بهما بلا شكوك، ويتسلّمهما بلا تحقق مما يُرسَل إليه.

في الحقيقة ليس جُرمًا أن يُنتج هؤلاءِ أفلامًا ولا أن يُخرجوا أعمالًا تخدم قضيّتهم الظالمة؛ وإنما الجرمُ كل الجرمِ على هؤلاء الذين يملكون قضيَّةً عادلة ولا يعرفون كيف يروجون لها، ولا يتحركون خطوةً نحو حجزِ مقعدٍ في التوعية ولا صفحةٍ في كتاب التاريخ. منذ نحو خمس سنواتٍ والمعارضةُ المصريةُ تملأ شوارع الغربة، ولا تكاد تمشي ساعةً في إسطنبول مثلًا حتى ترى واحدًا منهم أو يراك أحدُهم؛ المدنُ ملأى بالشباب والمقاهي تعجّ بالعاطلين منهم.

يتّصلُ بي أحدُهم: “فاضي النهاردة بالليل؟” –”اتفضل تحت أمرك..خير؟” –”محتاجين شباب بس تحضر حلقة المذيع فلان في قناة كذا كجمهور” –”وبعدين؟” –” حضور الحلقة بـ100 ليرة” –”مقابل؟” –”ولا حاجة.. لو عندك حد هيصقّف وممكن لو دماغه حلوة يشارك”.

إذَن بـ100 ليرة في الليلة الواحدة، تُباعُ “الولا حاجة” في قنواتِ الـ”مفيش فايدة” ببرنامج الـ”أي كلام” مع المذيع الـ”مش مذيع”.! يصيحُ العشراتُ في “دكاكين” إسطنبول وهم لا يملكون ما يقولونه إلا الكلمات ذاتها منذ سنوات.. يتغير الوضعُ والكلماتُ كما هي! ما الناتج؟ لا شيء.. ما الرسالة؟ لا شيء.. وبقية الأسئلةُ خاناتُ إجاباتها فارغة. يندد بتزوير التاريخ! يا سيدي وماذا فعلت أنت لتصوّره كما ينبغي؟ كم فيلمًا أنتجت؟ لا شيء! كم مخرجًا شابًّا دعمت؟ لا أحد! كم كاتبًا درّبتَ ليكتب لك عملا؟ لا أحد.. ولا عمل.. “العمل عمل ربنا”.

هنا في بلاد الغربة، لا يوجَد أكثر من التمويل لأصحاب القضايا، لكن الغريب أنه لا يوجَد أصحاب قضايا أصلًا! فإلى أين تذهبُ الأموال وفيمَ تُهدَر؟ نعم أؤكد لك..المسألة أبسط وأعقد مما تتخيل. دعنا نقول أن أصحاب القضايا موجودون؛ لكن بلا قضايا. أو دعنا نقول أن القضايا موجودة؛ لكن بلا أصحاب.

إنَّ القضيّة التي لا يجيدُ أصحابها الترويجَ لها ليستْ أهلًا لأن تُنصَر، وإن المروجين لقضاياهم -وإن كانت خاسرة- هُم أحقُّ منهم بأن يكتبوا التاريخ! ولنا في “الهولوكست” عبرة؛ ونحن الذين حدث في حقّنا “هولوكست” أيضًا لكننا لسنا يهودًا مع الأسف! لا نملك في الحقّ معشار همّتهم في الباطلِ، وليس لهم من الأدوات معشار ما لنا؛ لكننا قومٌ نجيدُ فتحَ القنواتِ حيث نملؤها بماءٍ فاسد، أو نجرّي الماء الصالحِ في قنواتٍ صدِئة. يا سيّدي.. إنّ ما أُنفق على مدار خمس سنواتٍ على أدواتٍ مهترئة ومنابر خالية من الخطباء، لو أنُفق عُشره فقط على إنتاجِ عملٍ واحدٍ واستغلالٍ طاقاتٍ مؤلّفة، لما كنّا مشغولين بالتنظير على هذا الفيلم والتعليق على ذاك المسلسل! إن منابرنا تفسّخَت أضلاعُها من كثرةِ ما اعتلاها المهرّجين؛ لا يملكون فنًّا ولا رسالة، لكنهم يجيدون “التنطيط”! ويا هنيئًا لهم بحارةٍ يصفّقُ أهلها حتّى لمجنونٍ يرقصُ أمام بيوتهم بنفس الحركات منذ خمسة أعوام! فلا هو توقّف عن الرقص.. ولا هم كفّوا عن التصفيق.

إن الفنّ ميدانٌ واسع، وجيوش الفنانين “أكثر من الهمّ على القلب”، لكنَّ أحدًا ما أعطى فلانًا أسلحةَ القتال؛ فضرب فلانُ القذائفَ إلى الأعلى لتنزل بعد ثلاثين ثانية تدمّر الميدان وتقضي على المحاربين، ثم يسأل صاحبُنا متعجّبًا: لماذا لم أفُزْ بالحرب؟!

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر”العدسة