تكسب الجماعة الإنسانية صفة (المجتمع)عندما تشرع في الحركة، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها. وهذا يتفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة.”

مالك بن نبي

إن أخذنا بالملاحظة الشخصية فإننا لن نتحدث إلا عما يمكنُ تسميته بـ”المحيط”، أي ذاك الوسط الذي يعيش فيه أحدنا، فهذا هو ما نستطيع –أو بالأحرى يستطيع الواحد منا- إدراكه على نحوٍ جيد، فالملاحظة الشخصية الذكية مأمونة إلى حدٍ بعيد، بحكم أن موضوع الإدراك، وهو المحيط الأقرب، لصيقٌ بالإنسان، كزملاء العمل، والأصدقاء، والأهل، والأقارب، والجيران..ونحو هؤلاء. وما كانت ملاحظة هؤلاء متيسّرة إلا لأننا غالباً ما نقفُ بأنفسنا –ومن غير وسائط- على وقائع التغير في ذلك المحيط، وربما استطعنا توصيف هذا التغير الذي نراه، كما أننا ربما نستطيع أن نفهم ونعلّل ذلك التغير، وبالطبع فنحنُ لا نتوقف عن تقييم ذاك التغير..هذا –على الأقل- حالُ الأغلبية الساحقة منا كأفراد، بغض النظر عن دقة أو صحة تلك التصورات والأحكام.

إن المجتمع هو مجموعة متراصّة من تلك المحيطات، التي سبق وصفها، تشبه الأقاليم المتنوعة التي تكوّن بقعةً جغرافية مترامية الأطراف لا يمكنُ أن ينفذها البصر المجرد. وبهذا ستظهر مشكلة الملاحظة الشخصية هنا، لأنها لتكونَ موثوقةً عند صاحبها لا تتجاوز حدود محيطه، فكلما ازداد موضوع ذاك الإدراك الشخصي المباشر سعةً كلما ضعفتْ تلكم الملاحظة المباشرة إلى أن تفقد قيمتها. وهذا ما جعل الإنسان يلجؤ إلى وسائط أخرى، وهي لا تخرج -في الواقع- عن ما يمكن وصفه وعن قصدٍ بـ”روايات الآخرين”، وهؤلاء الآخرون هم إما: وسائل إعلام، أو أشخاص يدعون لأنفسهم إدراكاً ما لما يتحدثون عنه، أو مراكز بحثية تزعم لنفسها الالتزام بالمناهج الصحيحة في المسح والاستقصاء للظواهر الاجتماعية..وكل هذه الوسائط، أي “روايات الآخرين” ربما كذبت بقصد أو بغير قصد، فـ”الدربيل” لا يكذب، لكن من يمسك به هو الذي ربما كذب، فالواقع –في العموم- يثبت أن تلك الوسائط البشرية قد تكذب وتضلّل، لارتباطها بمصالح ما، وهذا ليس بالمتعذر ولا بالمستحيل عقلاً، إذ أكثر الناسُ لا يملكون القدرة على مراجعة عمل تلك الجهات، أي أنهم –بصراحة- لا يستطيعون أن يتحققوا من صحة رواية الآخرين تلك، لأنهم لا يملكون الأهلية التقنية والعلمية للنظر المستقل بذاك “الدربيل” النزيه، فهو العلم الذي لا يحابي. ومن هنا فالكذبُ متوقع، وليس حتمياً بالضرورة. وهذا قد حدث ويحدث في دول أكثر شفافية من بلادنا بما لا يُقاس، فقد تعرضت -مثلاً- مراكز بحثية وعلماء في الولايات المتحدة للارتشاء من قبل شركات كبرى، فقط حتى يخفّفوا في تقاريرهم وخطاباتهم الإعلامية من مخاطر غاز الفريون، وحدث هذا -وبشكلٍ أكبر- فيما يتعلق بالقضايا السياسية.

أقول: هذا يحدث في دول تُعدُّ مضربَ المثل في حرية الإعلام والشفافية وما إلى ذلك، فما بالك بالدول العربية. إن الدول المتخلّفة هي التي تحدد شخصية وفكر شعوبها، في حين أن الدول الديمقراطية تعبّر عن فكر شعبها. وبمعنى أكثر غرابة أن: الدولة المستبدة هي من تعيّن شعبَها، في حين أن الدولة الديمقراطية هي من يعيّنها شعبُها، والنكتة الإعرابية عجيبة هنا، إذ الشعبُ مفعولٌ به في الأول، فاعلٌ في الثاني. ومن هذا فإن كون الدولة المستبدة هي المصدر النهائي لـ”روايات الآخرين” يجعلني كثير التشكك في صحة تلك الروايات والنتائج، لأنها منحازة ابتداءً، وتريد أن تحدد –وبشكلٍ مسبق- اتجاه ذلك التغيّر وطبيعته، مما سيحرم المجتمع من ممارسة الجدل بشكلٍ عفوي وموضوعي وحر، وأيضاً بادعاء الموضوعية والحرية والعفوية، فلا بدَّ للظالم أن يلعن الظلم علناً ولمرات متكررة، ولذلك فأظنكم ستعلمون أن تلك الروايات الرسمية –وهي الخطابات الإعلامية المزوّدة بالدراسات- بكافة أشكالها دائما محل ارتياب عندي..

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة