العدسة – ربى الطاهر
“جرافيتي” هكذا انتشرت الكلمة بالوطن العربي مع اندلاع ثورات الربيع ليربط شباب الفنانين، وبشكل خاص في مصر بين المناخ الثوري الصاعد وبين هذا الفن المتأجج على مدار الـ 100 عام الماضية بكثير من دول أمريكا اللاتينية كتعبير رئيسي عن حركات الاحتجاج الاجتماعي والتغيير الثوري، خاصة دول المكسيك وشيلي وفنزويلا والأرجنتين، وكذلك بالدول الأوروبية للتعبير عن مطالب مجتمعية خاصة كتلك المتعلقة باحترام حقوق المرأة والطفل والحيوان.
ليس فنًا حديثًا، هكذا اتجه الرسامون للتأصيل وربطوا بين الرسومات فى المعابد الفرعونية فى مصر، والفينيقية في سوريا، والسامرية في العراق وبين هذا الفن بل وبين رسومات استقبال الحجاج على واجهات البيوت غير أن دراسة الاتجاهات الفنية الحديثة هى من قادت شباب الفنانين العرب المرتبطين أيدولوجياً بالثورة إلى الإبداع فى هذا المجال والاطلاع على ما وصل إليه العالم في هذا الاتجاه.
أمريكا اللاتينية والجداريات
ولكن من أين بدأ العالم الاحتجاج بالجدارايات؟ .. كانت الانطلاقة مع بداية القرن الـ 19 واندلاع الثورة المكسيكية، أخذت الثورة ضد الإقطاع عام 1910 منذ البداية زخماً ثقافياً دافعاً بفضل المثقفين، سواء بتبنى أفكار ومواقف ثورية، أو بالمشاركة فى القتال ضد الطغاة، وإن كان أبرز ما قدمه المثقفون للثورة هو إقناع قطاعات عريضة من الشعب فى المشاركة، لإحداث التغيير.
وكان العنوان الشهير “المكسيك فى ثورة” هو الرامز لمجموعة اللوحات التى جسدت رؤية ومعايشة الفنانين “أوروزكو” و”بيستيياس” لأحداث الثورة العنيفة، التى استطاعت إسقاط حكم دياز الفاسد فى عام 1910 بعد حكم دام ثلاثين عاما، كما عكس فى تلك المجموعة انكسار الثورة بعد مقتل أحد قادتها مادير نو عام 1913 على أيدى هويرتا، فتردت المكسيك فى حمام كبير من الدماء. هذه التجربة المريرة ظهرت بجلاء فى لوحات أوروزكو، وتجلت فى أعماله وجدارياته، وخاصة فى جدارية الضحايا، والإنسان الخلاق على جدران جامعة جوادا لاجارا، فى الفترة من 1936 الى 1939.
خلقت الجداريات المكسيكية واقعا جديدا غير مسبوق لم يكن موجودا من قبل، سواء من الناحية التقنية أو الفنية والجمالية، والثقافية باعتبارها كتبا مفتوحة للفن والمعرفة، لكن بلغة بصرية، ومن المكسيك إلى دول أخرى كشيلي وكوبا التزم الفنانون بما يسمى “الإعلان الثوري” أي تحويل الجدران إلى وسيلة للتعبير عن أفكار الثوار ومطالب الاحتجاجات.
ومع انتشار هذا النوع الجديد من الإبداع، تحولت الثورة من السياسة إلى الفن وأصبح شعار “اللوحة كتاب مفتوح” عبر العالم مناهضا لفكرة “اللوحة الفاخرة” المرسومة فوق حامل المعلقة فوق جدار ببيت أو قصر باهظ الثمن، وهكذا لم تعد اللوحة حبيسة جدران بيوت الأثرياء، والمتاحف المغلقة، يراها عدد محدود وظهرت الجداريات كتبا مفتوحة للناس فى الشوارع.
وليس عجيبًا أن نعرف في ظل هذه التفاعلات أن كثيرًا من الفنانين اللاتينيين قد دفعوا ثمنًا باهظًا من حريتهم بسبب الرسوم المناوئة للأنظمة ولعل أشهرهم الفنان الأرجنتيني “ريفيرا” الذي قضى بالحبس عشر سنوات كاملة بسبب رسوماته المنتشرة بالعاصمة.
الرسم من أجل الخير فى أوروبا
انتشر الرسم على الجدران في أوروبا وأمريكا مرتبطا بانتشار موسيقى “هيب هوب” و”الروك” واندلاع ثورة الشباب في ستينيات القرن العشرين كنوع من تعبير الشباب عن تمردهم وبحثهم عن معاني جديدة بالحياة.
أما في الألفية الجديدة فقد تنوعت رسومات الجداريات بين السياسية والاجتماعية والفلسفية أيضًا، فهناك من يدافع عن حقوق المرأة وآخر عن المثليين، واستمرت رسومات شهيرة ضد الفقر والعنف أما النوع الأكثر انتشارا بالسنوات الأخيرة فهو المستخدم فى “التوعية” من أجل جمع أموال التبرعات لإنقاذ الأطفال أو مواجهة كوارث بيئية في العالم.
إحدى هذه الجمعيات التي ساعدها فن الرسم على الجدران بالشارع هي جمعية “أولي يونج” البريطانية وحملتها لجمع التبرعات لمشروع طبي للأطفال، بمشاركة فنان الشوارع “بيسترول”، الذي يؤمن أن بإمكانه استغلال الأماكن المهمشة في مدينته ووكينغهام لرسم لوحات تزرع الأمل والنور داخل سكان الحي. بيسترول ليس وحده في ذلك، بل يشاركه في ذلك الكثير من الفنانين من مختلف أنحاء أوروبا، الذين تمت دعوتهم للانضمام إلى هذا العمل الكبير والفريد من نوعه. حول ذلك يقول بيسترول: “كان شيئاً جميلاً أن أقوم بذلك”.
وعلاوة على دعم هذا النوع من الفنون للجمعيات الخيرية والحملات الإنسانية، اتجه فن الشوارع إلى نقل صوت المحتجين على قرارات سياسية، كما حدث عام 2012 عندما اقترحت المفوضية الأوروبية لصيد الأسماك فرض حظر على طريقة للصيد تؤثر على الكائنات البحرية التي تعيش في قعر المحيط، وهو حظر استمرت دول مثل فرنسا وإسبانيا في إعاقته. وهنا توحد عدد كبير من الفنانين من مختلف أنحاء أوروبا وحاربوا بألوانهم لوقف هذا القرار، في عمل ضخم شمل كلاً من لشبونة وبرلين وروما وبروكسل وباريس ولندن ومدريد.
وهكذا تلونت المدن عبر سنوات غير قليلة، وشهدت موجات متتالية من الرسومات هذا بينما قالت بلدية مدينة “بون” الألمانية العام الماضي أن تكلفة مسح الجداريات تصل إلى 90 ألف يورو سنويا وأشار المتحدث باسم بلدية المدينة أن الإزالة تتم أغلب الأحيان بسبب الرسم على ممتلكات الغير دون استئذانه أو لاستخدام مواد طلاء ضارة بالبيئة.
الفنان المجهول
تشمل تجارب الفنانين كثيرا من الجنون، ولعل أشهرهم بالفترة الأخيرة هو “بانسكي”، يعد بانسكي من أشهر الفنانين بالوقت الحالي ويطلقون عليه “الرجل المجهول” فلم يره أحد ولكن منذ 2003 انتشرت رسوماته على جدران لندن وكان أشهرها لوحة لـ”الموناليزا” وهى تحمل قنبلة، وكانت المفاجأة الأكبر بظهور رسوماته المناوئة للاحتلال الصهيوني على الجدار العازل في الضفة الغربية بعد ذلك بعشر سنوات، حصل على عدة جوائز دولية لكنه لم يذهب لتسلم أي منها.
ولعل أشهر الجداريات له تلك المواجهة لساعات “بن بن” ويظهر بها رجل وسيدة ينعمان بصحة جيدة وهم يتمتعان بوقتهما داخل عربة “حنطور” بينما من يجرها طفل من العالم الثالث يعاني القهر والفقر.
اشهر اللوحات
عرض موقع «هافينجتون بوست» الأمريكي العام الماضي مجموعة مكونة من 25 صورة جرافيتي لأبرز فناني الشارع المعاصرين في العالم، الذين هزت جدارياتهم الطريقة التي نرى بها الفن بشكل عام، وفي محاولة منها لمواصلة استكشاف شكل من أشكال الفن الذي تهيمن عليه أسماء كبيرة مثل بانسكي وشيبارد فيري، كانت هذه الرحلة في فن الشارع حول العالم، والجدير بالذكر أن الجرافيتي المصري احتلت جداريته المركز العاشر بين هذه اللائحة.
وكانت من تلك اللوحات الاكثر تميزاً، لوحة ضد اضطهاد المرأة في أي مكان بالعالم رسمها الفنان الأرجنتيني “رؤا”.
أما فى العالم العربي، فقد انتشرت فى مصر الجداريات المجسدة لوجوه شهداء ثورة يناير على جدران الجامعة الأمريكية بوسط القاهرة وكذلك انتشرت بالفترة الأخيرة الرسومات المناوئة بالتحرش الدافعة للفتيات للدفاع عن أنفسهن والمطالبة بمنح المرأة فى الأوساط الفقيرة حقوقها ومنع الرجل من الاعتداء عليها
وفي أفغانستان التي تعيش هى الأخرى ظروفا سياسية واجتماعية صعبة تحدث رسامة جرافيتي الظروف المجتمعية وهى “شميسة حساني” من خلال رسومات لبرقع أزرق وراء القضبان عن اضطهاد المرأة في أفغانستان. وفي نيروبي يتم رسم جرافيتي في شكل صقور على جدران منازل يقطنها سياسيون متهمون بالفساد.
لا يحصل أغلب فناني الشوارع على أي أموال مقابل عملهم، وهم يرفضون بيع أعمالهم إلا للتبرع لقضايا إنسانية أو بيئية.
اضف تعليقا