ما أشبه اليوم بالبارحة، الطريقة التي يتراجع بها نفوذ الولايات المتحدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط لا يختلف كثيرًا عن تلك التي انتهى بها نفوذ الإمبراطورية البريطانية في نفس المكان قبل عقود.
اليوم نرى الحكام المستبدين لدول الشرق الأوسط يسعون بشدة للتحرر من التبعية للولايات المتحدة ويبحثون عن حلفاء جدد -من خصوم أمريكا نفسها- ويعكس هذا بدوره تحولاً جوهرياً نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث لم تعد القوى العظمى المنفردة هي المهيمنة.
في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، يقوم أفراد العائلة المالكة عديمي الرحمة بغرس هوية وطنية متجانسة وبسط قوتهم في الخارج من خلال النفوذ المالي والنفط والرياضة. ويرفضون عبر استغلال أهميتهم الاستراتيجية، وضع الحماية الغربية الذي منحته لهم الولايات المتحدة، وقبل ذلك بريطانيا.
منذ توليه الرئاسة عام 2021، ابتعد الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يدرك الكوارث الأمريكية الأخيرة والانشغال بالصين وأوكرانيا، عن الأزمات المستمرة في الضفة الغربية ولبنان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان، كما لم ينفذ وعده الكبير والوحيد في الشرق الأوسط ــ إنقاذ الاتفاق النووي الإيراني الذي دمره دونالد ترامب.
التاريخ يعيد نفسه، في عام 1956، أدى غزو مصر إلى تقويض مكانة بريطانيا كقوة إقليمية مهيمنة بشكل قاتل. فهل تقترب أميركا التي أصبحت غير ذات أهمية من نقطة تحول أشبه بقناة السويس؟
ليس من المستغرب، نظرا لإيمانه طوال حياته بالتفوق الأمريكي، ولكن ربما بشكل غير حكيم نظرا لتيار العصر، أن إجابة بايدن على السؤال السابق هي لا، بل على العكس، أطلق في وقت متأخر حملة طموحة لإعادة تأسيس القيادة الإقليمية للولايات المتحدة.
يعود ذلك جزئيًا إلى مواجهة نفوذ بكين وموسكو، وجزئيًا لتذكير الحلفاء المحليين الذين لا يمكن إقناعهم والذين يضمنون أمنهم وازدهارهم، ولتوضيح هذه النقطة، أرسل بايدن 3000 جندي إضافي إلى الخليج هذا الشهر، ظاهريًا لردع إيران ولكن أيضًا للتأكيد على أن الولايات المتحدة لا تزال هي الزعيم.
الحسابات السياسية تلعب دوراً أيضاً، ينتظر بايدن إعادة انتخابه مرة أخرى العام المقبل، وفي سبيل ذلك يأمل بايدن في تسجيل ثلاثية غير محتملة، والجائزة تعادل في الدبلوماسية التاج الثلاثي: “تفاهم” أمريكي مع إيران، وصفقة تطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وتحقيق انفراجة فيما يتعلق بإقامة الدولة الفلسطينية.
يسعى بايدن إلى التوصل إلى اتفاق ثنائي غير رسمي لوقف برامج طهران النووية المزعومة المتعلقة بالأسلحة مقابل الرفع الكامل للعقوبات الأمريكية – وهو أكثر ما يرغب فيه النظام الإيراني الذي لا يحظى بشعبية والمحاصر اقتصاديًا. المحادثات مستمرة.
أما الجزء الثاني المرتبط بهذا التحول في الشرق الأوسط فيشمل عدو إيران القديم، السعوديون. وقد انزعجت الولايات المتحدة من الوساطة الصينية بين طهران والرياض والتعاون السعودي مع موسكو، إذ يريد بايدن ضمان وقوف الحاكم الفعلي للسعودية، محمد بن سلمان، إلى جانبه – وتأمين تطبيع العلاقات مع إسرائيل على غرار تلك التي نجح في عقدها سلفه دونالد ترامب.
ولتحقيق هذه الغاية، يقال إنه يلوح باتفاقية أمنية ودعم الولايات المتحدة لبرنامج الطاقة النووية المدني السعودي الذي يمكن أن يضاهي البرنامج الإيراني، على الرغم من المخاوف الواضحة من الانتشار النووي.
لماذا ينبغي على الولايات المتحدة أن تساعد وتدافع عن النظام السعودي الذي يحتقر قيمه الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وخاصة وأنه بعد مقتل جمال خاشقجي عام 2018، تعهد بايدن بجعل المملكة “منبوذة” على مستوى العالم، الجواب ببساطة هو أن التطبيع سيمثل فوزًا كبيرًا قبل الانتخابات للرئيس، خاصة عندما يرتبط بالجزء الثالث من خطته: النهوض بالدولة الفلسطينية.
ويحتاج بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي المحاصر داخلياً، بشدة إلى صفقة سعودية، ويريد السعوديون ذلك أيضاً، لكنهم يصرون، على الورق على الأقل، على تحقيق تقدم ملموس نحو إقامة دولة فلسطينية. ويعارض شركاء نتنياهو اليمينيون المتطرفون في الائتلاف أي تنازلات، وهو بالكاد يتحدث مع بايدن – وفي أكتوبر، يخطط لزيارة الصين فقط لإغاظته.
ومع ذلك، يبدو أن بايدن يعتقد أنه قادر على الفوز بموافقة إسرائيلية على زيادة الحكم الذاتي الفلسطيني، ووقف خطط ضم الضفة الغربية، وربما إحياء عملية السلام القائمة على دولتين مقابل تسليم السعوديين، والدفاع عن إيران، وتقديم ضمانات أمنية شاملة.
تبدو آمال بايدن في تحقيق الثلاثية غير منطقية بعض الشيء، بل يراها البعض أوهام، وبغض النظر عن الأسباب المحلية التي لا تعد ولا تحصى لجعل تحقيق هذه الأهداف مستحيلة، فإن الوقت ضده، بالإضافة إلى أن الحكام المستبدين في المنطقة الذين يهتمون بمصلحتهم الذاتية يتساءلون إلى متى قد يستمر في منصبه ــ وهل سيحل محله ترامب.
إن عصر القوة العظمى المهيمنة و”الأمة التي لا غنى عنها” يقترب من نهايته… قد يبذل بايدن قصارى جهده للحفاظ على النظام القديم، ولكن مثل “العصر الإمبراطوري” الضائع في بريطانيا، فإن “القرن الأمريكي” ينطلق بسرعة إلى ذات المصير المكتوب في التاريخ.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا