العدسة – منصور عطية

ظاهرها “إنساني” أو حتى “أكاديمي”، لكن بقليل من المنطق يصعب للغاية الفصل بين الواقع السياسي وزيارة طلاب سعوديين مبتعثين في أمريكا للمتحف التذكاري للهولوكوست في ذكرى المحرقة النازية لليهود، بين عامي 1939 و1945.

الزيارة التي وثقتها الكاميرات وتم تداول الفيديو الخاص بها على نطاق واسع على مدار الأيام الماضية، تضمنت جولة قام بها الطلاب للمتحف، بتنسيق بين السفارة السعودية في واشنطن وإحدى الجامعات الأمريكية.

الواقع السياسي يتحدث عن محاولات مستميتة لإرساء دعائم التطبيع بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي، منذ قدوم الأمير محمد بن سلمان لولاية العهد وسيطرته فعليا على عرش المملكة، وهو ما يضفي طابعا سياسيا على الزيارة لا يمكن نكرانه.

“العيسى” عراب الهولوكوست

لكن ثمة أمر لافت للنظر في سياق الحديث عن تلك الزيارة، فكما كانت هناك دائمًا الحاجة إلى “عراب” يقود جهود التطبيع بين السعودية وإسرائيل، أمثال الأمير تركي الفيصل وأنور عشقي وغيرهما، يبدو أن الرياض اختارت عرابًا جديدًا من مدخل الهولوكوست.

“محمد عبدالكريم العيسى” أمين عام رابطة العالم الإسلامي، ووزير العدل السعودي السابق بعث برسالة تضامنية إلى مديرة المتحف التذكاري للهولوكوست “سارة بلومفيلد”، وصف فيها المحرقة بأنها “جريمة نازية هزت البشرية في العمق وأسفرت عن فظائع يعجز أي إنسان منصف ومحب للعدل والسلام أن يتجاهلها أو يستهين بها”.

الوزير السابق الذي لا يُرى منه إلا الصمت حيال ما يرتكب بحق العرب والمسلمين في بقاع شتى، ادعى أن “الرابطة لا تعرب عن وجهات نظرها استناداً إلى أي أبعاد سوى البعد الإنساني البحت المتعلق بالأرواح البريئة”.

على الفور تلقفت إسرائيل الرسالة بترحيب شديد، وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية في تصريحات صحفية، إن بلاده “تعرب عن تقديرها العميق لمثل هذه التصريحات، من جانب فضيلة الشيخ محمد بن عبدالكريم العيسى”.

وأضاف: “إننا إذ نشكره على تضامنه مع ضحايا الهولوكوست، لنأمل بالوقت ذاته أن تتضافر الجهود من قبل الدول المجاورة، من أجل إدانة المحرقة النازية، لتفنيد الدعوات التي نسمعها صباح مساء من الإيرانيين وآية الله، بوجوب حرق وإلقاء اليهود بالبحر”.

في السياق ذاته، احتفت صحيفة “هآرتس” العبرية بتعاطف وزير العدل السعودي السابق، واعتبرت أن هذا الموقف هو “ثمرة للحرب الشرسة التي يقودها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضد التيار الديني”.

“إسلام السعودية” الجديد

المثير أن تلك العلاقة المريبة لم تتجلَّ في هذا الموقف فحسب، بل سبقته شواهد أخرى من بينها الحوار الذي أجرته صحيفة “معاريف” العبرية مع “العيسى” في نوفمبر الماضي، يرتبط ارتباطا وثيقا بما سبق وأن أعلن عنه “ابن سلمان” كمنهج جديد للبلاد تحت قيادته.

“العيسى” وصف ضمنيًا المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي بالإرهاب، حيث قال في الحوار، إن الإرهاب باسم الإسلام غير مبرر أينما كان، بما في ذلك إسرائيل.

الصحيفة التي وصفت العيسى بأنه مقرَّب من ولي العهد السعودي احتفت برد على سؤال لمراسلها حول إذا كان الإرهاب الذي تنفذه مجموعات ومنظمات باسم الإسلام ضد إسرائيل وأهداف يهودية وتربطه بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي يقع في إطار الإرهاب الذي تعارضه بلاده لأنه يسيء للإسلام؛ حيث رد العيسى بأن أي عمل عنف أو إرهاب يحاول تبرير نفسه بواسطة الدين الإسلامي مرفوض.

وأبلغ العيسى مراسل الصحيفة أنه يستعد للاجتماع بكبير حاخامات اليهود في فرنسا والحوار معه في هذه المسائل، كما أنه منفتح للحوار مع كافة الأديان، بما فيها اليهودية، مؤكدا أن السعودية تقود الإسلام المعتدل المسالم، وهي لا تؤيد منظمات الإرهاب والإسلام المتطرف مثل “داعش”.

هذه الجزئية تحيلنا إلى التصريح الذي أطلقه “ابن سلمان” في أكتوبر الماضي، للتعبير عن قيادته للبلاد بقوله إن السعودية “ستعود إلى الإسلام المعتدل الوسطي المنفتح على العالم”.

“ابن سلمان” رجل إسرائيل!

ويبدو أن أحدث الإرهاصات تأتي استكمالًا لسلسلة من المواقف السعودية التي كشفت بوضوح عن الوجه الحقيقي للمملكة فيما يخص القضية الفلسطينية الأزمة الأكبر بالمنطقة، والذي أزاح قرار ترامب بشأن القدس القناع عنه.

البداية كانت مع تقارير إعلامية نقلت عن وزير الاستخبارات الإسرائيلي “يسرائيل كاتس”، قوله إن ترامب أجرى سلسلة اتصالات مع الزعماء العرب، قبل إعلان قراره، مشيرًا إلى استبعاده ردود فعل جدية من قبل هؤلاء الزعماء تتجاوز التقديرات السائدة في واشنطن وتل أبيب.

ثم كان ما كشفته القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، التي قالت إن قرار الرئيس الأمريكي بنقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى مدينة القدس المحتلة، “لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيًا”.

وكشف مراسل القناة العبرية أن كلًا من السعودية ومصر “أعطيتا ترامب الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدًا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، وفق تقارير إعلامية.

وكان التمثيل الهزيل للمملكة في قمة إسطنبول الإسلامية الطارئة بشأن القدس، والذي عكس مدى اهتمام قيادتها بالقضية، على نحو فُضح فيه موقف الدولة التي تحتضن أقدس المقدسات الإسلامية.(تفاصيل أكثر في تقرير سابق للعدسة)

ولم يكن لتلك الخطوات المتتالية فيما يتعلق بقضية القدس أن تتم لولا خطوات أخرى تمهيدية على مدار الأشهر الماضية، بدا منها عبر وقائع رصدها وحللها (العدسة) أن السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي.

وبعيدًا عن الشواهد غير الرسمية وتلك التي يكون أبطالها أشخاصًا ليسوا في منظومة الحكم أو يتمتعون بحيثية كبيرة، أكد مسؤول إسرائيلي، رفض الكشف عن اسمه، لوكالة الصحافة الفرنسية أن المسؤول السعودي الذي زار إسرائيل سرًا في شهر سبتمبر الماضي هو ولي العهد محمد بن سلمان.

وفي نوفمبر نشرت مجلة “فوين بوليسي” الأمريكية تقريرًا، وصفت فيه ولي العهد السعودي بأنه “رجل إسرائيل في السعودية”، وقالت إن “ابن سلمان” عنصر “يمكن الاعتماد عليه في مشروع أمريكي إسرائيلي طويل الأمد لخلق شرق أوسط جديد”.

الحديث عن صفقة القرن يعود إلى عام 2010، حين أنهى مستشار الأمن القومى الإسرائيلي السابق، اللواء احتياط “جيورا أيلاند”، عرض المشروع المقترح لتسوية الصراع مع الفلسطينيين في إطار دراسة أعدها لصالح مركز “بيجين-السادات” للدراسات الاستراتيجية، بعنوان: “البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين”.

الدراسة التي نشرت تفاصيلها تقارير إعلامية في حينها، تقوم على اقتطاع 720 كيلومترًا مربعًا من شمال سيناء للدولة الفلسطينية المقترحة تبدأ من الحدود المصرية مع غزة، وحتى حدود مدينة العريش، على أن تحصل مصر على مساحة مماثلة داخل صحراء النقب الواقعة تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، بينما تخلو الضفة الغربية بالكامل للاحتلال.

ترتكز الخطة على تحويل غزة إلى مدينة اقتصادية عالمية على غرار “سنغافورة” بعد زيادة مساحة شريطها الساحلي، مقابل إغراء مصر بمكاسب اقتصادية ضخمة لتحكمها في شبكة الحركة البرية والجوية والبحرية التي ينتظر أن تربط تلك الدولة الفلسطينية بمصر والأردن والعراق ودول الخليج أيضًا.