بلا أي حكمة، وبصورة غير مسبوقة في التاريخ بأسره، السيسي يبدأ رحلته نحو الترشح لمرحلة رئاسية جديدة بشعار “إذا كان ثمن التقدم والازدهار الجوع والعطش… فلا داع أن نأكل أو نشرب”، جاء هذا في وقت ارتفعت فيه أسعار المواد الغذائية بنسبة 71.9% على مدى العام الماضي، وبدلًا من نشر الآمال في نفوس المواطنين، إنه يؤكد لهم أن المجاعة قد تكون ضيفًا خلال فترة رئاسته إن اقتضى الأمر ذلك.

قررت مصر في 25 سبتمبر/أيلول إجراء الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول قبل الموعد المقرر لها، وحسب محللين، فإن السيسي حريص على تقديم موعد الانتخابات قبل أن يتخذ قرارات اقتصادية مؤلمة -للمواطن- مثل خفض قيمة العملة أكثر مما هي عليه.

في الدول الديموقراطية، الانتخابات تشكل تهديدًا لأي برنامج انتخابي لا يرقى لطموح المواطنين واحتياجاتهم، لكن في مصر، عدد الناخبين هو “تحصيل حاصل”، الانتخابات برمتها عبارة عن مسرحية هزلية، يتعامل معها النظام لأنه مضطر إليها، لكنه في الواقع لا يصل إلى السيطرة إلا بالتزوير.

وبالرغم من اقتناع الكثيرين بهذا، بما فيهم النظام المصري الحالي نفسه، إلا أن السيسي، الذي قاد انقلابا في عام 2013، يقف الآن على أرض متذبذبة، ويتضح ذلك جليًا من خلال تصريحاته المتخبطة، فوزه يعني استمراره في الحكم حتى 2030 لكن السؤال الذي بدأ يهمس به العديد من المصريين هو ما إذا كان سيستمر في الحكم لهذه الفترة الطويلة.

الانتخابات السابقة عام 2018 لم يكن هناك أدنى شك في أنه سيفوز بالانتخابات، لم يكن ينافسه سوى منافس واحد من “معارضة وهمية” هو نفسه أعلن أنه صوت للسيسي، بل إنه احتل المركز الثالث في سباق ثنائي (جاءت بطاقات الاقتراع الباطلة في المركز الثاني)، في الواقع تم استبعاد أي شخص كان من الممكن أن يشكل تحديًا حقيقيًا، سواء بالاحتجاز أو التهديد لحمله على التراجع عن فكرة الترشح.

الانتخابات الحالية شهدت تواجدًا أكثر تحديًا لأربعة مرشحين منافسين، لا توجد لهم شعبية كثيرة في البلاد، لكن المرشح المحتمل أحمد الطنطاوي هو الأبرز الآن على ساحة منافسي السيسي، وتزداد شعبيته كل يوم، وحسب تصريحات إعلامية له فإن العشرات من أنصاره اعتقلوا بعد أن أعلنت الحكومة موعد الانتخابات.

الانتهاكات لم تطل أعضاء حملة الطنطاوي وحسب، بل امتدت إلى عرقلة المواطنين من تحرير توكيلات له لتمكينه من التقدم للترشح للانتخابات الرئاسية، هي انتهاكات بالجملة يتم نشرها يوميًا بالصوت والصورة من أمام مكاتب الشهر العقاري المصري.

الطنطاوي تعرض كذلك لحملة تجسس من قبل النظام المصري بعد اختراق هاتفه ببرنامج “بريداتور”، وهو برنامج تجسس متطور، كشفت عن نتائج تحليل مركز “سيتزن لاب” الكندي.

السيسي أعلن ترشحه رسميًا للرئاسة قبل عدة أيام فقط، مدعيًا أنه ترشح نزولًا على رغبة الجماهير وقال “كما استجبت لدعوة المصريين من قبل، أستجيب اليوم لدعوتهم مرة أخرى”، متخذاً موقفاً مألوفاً: الزعيم المتردد الذي تضغط عليه أمة عاشقة من أجل الاستمرار في المنصب.

في الواقع لا توجد استطلاعات موثوقة حول حقيقة شعبية السيسي، لكن من الآمن أن نقول إن القليل من المصريين ما زالوا يعشقونه، مع ذلك فإن المواطنون العاديون الذين هللوا لانقلابه في عام 2013 لأنهم يتوقون إلى الاستقرار، يلعنون الآن طريقة تعامله مع الاقتصاد، خاصة بعد أن فقدت العملة نصف قيمتها في ثلاث تخفيضات منذ أوائل عام 2022، كما ووصل التضخم السنوي إلى مستوى قياسي بلغ 39.7% في أغسطس/آب، وترك نقص الدولار الشركات تكافح لتمويل الواردات، وقد تضاعف الدين الخارجي، من 17% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2013 إلى 39% اليوم.

وقعت مصر اتفاقية بقيمة 3 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر/كانون الأول، والجدير بالذكر أن مصر هي ثان أكبر دولة مستدينة من الصندوق. كان من المفترض أن تؤدي المراجعة التي كان من المقرر الانتهاء منها في شهر مارس/آذار إلى توفير المزيد من الأموال، لكن تم تأجيله لأن مصر لم تحرز تقدما يذكر في اثنين من المطالب الرئيسية للصندوق: بيع الأصول المملوكة للدولة وتعويم العملة، ولم تحصل إلا على الدفعة الأولى البالغة 347 مليون دولار من القرض.

لقد حققت حكومة السيسي تقدماً فاتراً فيما يتعلق بالمسألة الأولى: بيع أصول الدولة، إذ لقد باعت حصصًا بقيمة 1.9 مليار دولار منذ بداية العام الجاري حتى يونيو/حزيران، بالكاد فقدت هدفها البالغ 2 مليار دولار، وتأمل في تحويل 5 مليارات دولار أخرى بحلول يونيو/حزيران 2024. لكن مع ذلك ترفض السلطات تقويض الإمبراطورية الاقتصادية للجيش، التي تمثل عقبة كبيرة أمام النمو لأنها يزاحم عددًا متزايدًا من الشركات الخاصة.

وفي أغسطس/آب، عقد السيسي اجتماعا حول كيفية تنمية صناعة الحديد والصلب في مصر، ضيوفه الوحيدون كانوا جنرالات يرتدون الزي الرسمي، لم يكن هناك أي رجال أعمال على الطاولة.

أما مسألة تعويم العملة ستكون أصعب، إذ لا يزال سعر السوق السوداء أقل بحوالي 20% من السعر الرسمي، وسيؤدي ضعف الجنيه إلى مزيد من التضخم (يقدر صندوق النقد الدولي أنه سيصل في المتوسط إلى 32% في عام 2024، ارتفاعًا من 24% هذا العام)، وحتى المحللون المتفائلون في البنوك المصرية يشكون في أن البنك المركزي سيقترب من هدف التضخم البالغ 7٪.

في الوقت نفسه، سيتعين على مصر سداد 29.2 مليار دولار من الديون الخارجية العام المقبل، مقارنة بـ 19.3 مليار دولار في عام 2023. وهذا يعادل 85٪ من احتياطياتها الأجنبية البالغة 34.4 مليار دولار، وهو رقم يتكون معظمه من الودائع من دول الخليج، وعلى الرغم من أنهم يبدون على استعداد لتجديد تلك الودائع إلى أجل غير مسمى من حيث المبدأ، إلا أنهم سئموا من السيسي ويترددون في تقديم المزيد من المال له.

وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الفائدة بأكثر من الضعف منذ أوائل عام 2022، لتصل إلى 19.75%، فإن التضخم المرتفع يعني أن أسعار الفائدة الحقيقية سلبية، وتقدم البنوك المملوكة للدولة فائدة بنسبة 9% على الودائع بالدولار، وهي عوائد تحمل طابع مخطط بونزي.

يُذكر أيضًا أنه في فبراير/شباط الماضي خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني تصنيف مصر السيادي درجة واحدة إلى “بي 3” (B3)، وسط توقعات بتسارع معدلات التضخم في البلاد، وقد يقوم بنك جيه بي مورجان تشيس بإزالة البلاد من مؤشر سندات الأسواق الناشئة بسبب المخاوف من عدم قدرة المستثمرين على إعادة الأموال إلى وطنهم.

ويقدر بنك جولدمان ساكس، وهو بنك آخر، أن مصر تحتاج إلى تمويل إضافي بقيمة 11 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة،ويأمل المسؤولون في سد الفجوة من خلال مبيعات أصول الدولة، والاقتراض من الدول الآسيوية وقرض صندوق النقد الدولي. لكن الرياضيات تبدو شاقة.

مقابل كل هذه الأزمات الاقتصادية المتصاعدة، لا يقدم السيسي سوى كلام فارغ، وفي يونيو/حزيران، أصر على أنه لن يوافق على تخفيض آخر لقيمة العملة؛ وقال الشهر الماضي إن “النهاية قريبة” للأزمة الاقتصادية.

وبدلًا من تقديم حلول منطقية لسد أزمة البطالة أخبر الشباب أنه يمكنهم كسب “دخل محترم” من خلال التبرع بالدم كل أسبوع، ضاربًا بالأبحاث العلمية التي تحظر التبرع بالدم إلا مرة كل ثلاث أشهر على الأقل عرض الحائط.

يتفاخر مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء، بأن مصر أنفقت 9.4 تريليون جنيه مصري (300 مليار دولار) على مشاريع البنية التحتية خلال العقد الماضي، وحتى لو كان ذلك صحيحا، فقد تم إهدار الكثير من هذه الأموال على مشاريع كبيرة، من عاصمة جديدة شاسعة ومقفرة في الصحراء إلى توسيع قناة السويس التي كانت أقل بكثير من توقعات الإيرادات، دون بناء مشاريع تنموية حقيقية تساعد في سد الأزمة الاقتصادية وتحسين مستوى دخل المواطن.

حسب الدستور المصري، هذه هي الانتخابات الأخيرة للسيسي: فالدستور يحظر الترشح لولاية رابعة، في الواقع الدستور كان يحظر الترشح لولاية ثالثة، لكن السيسي أجرى تعديلات دستورية في استفتاء زائف عام 2019، مما أدى إلى إحداث ثغرة سمحت له بالترشح مرة أخرى.

الجدير بالذكر أن بعض أنصاره حثوه على التوقف عن الترشح للرئاسة، ويتذكر أحدهم قائلاً: “لقد أخبرته أنه يمكن أن يتقاعد باعتباره الرجل الذي أنقذ مصر من الفوضى”، وتابع “قلت له توقف واترك المجال لأفكار جديدة”.

مرة أخرى، الانتخابات هي عملية ديموقراطية يحاول السيسي تطبيقها بطريقة غير ديمقراطية، ورغم أن الإطاحة بحسني مبارك في عام 2011 يعتبرها البعض ثورة، فمن الممكن أن نطلق عليها أيضاً اسم انقلاب: فقد انقلب الجيش على الحاكم للحفاظ على نظام الحكم، ومن الممكن أن يتكرر التاريخ، وخاصة إذا أثار ارتفاع الأسعار اضطرابات إضافية.

الجدير بالذكر أنه في الليلة التي أعلن فيها السيسي ترشحه، هتف الناس “ارحل”، وهو شعار شعبي منذ عام 2011، في حال فاز السيسي بولاية جديدة سيستمر في الحكم لمدة ست سنوات، لكن لا توجد ضمانات بأنه سيسمح له بإكمال هذه الولاية.

لقراءة التقرير من المصدر اضغط هنا