ترجمة لمقال بقلم المحامي والخبير القانوني ريد برودي

 

لعقود من الزمن، كانت العدالة غائبة عن الصراع… هل سيتغير الوضع الآن؟

بدأت إسرائيل عدوانًا على غزة منذ الشهر الماضي، القصف الإسرائيلي دمر منزل صديقي العزيز راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وقبل هذا الحادث بثلاثة أيام، قال الصوراني لموقع الديمقراطية الآن: “أنا هنا مثل شجرة زيتون… لن نترك وطننا أبداً»، لكن بعد تدمير المنزل تساءل الصوراني هل كان قراره برفض المغادرة خاطئًا!، وواصل في رسالة لأحد أصدقائه “لم أرد أن أكون جزء من النكبة الجديدة!”.

في نظري، ما يجعل الهجوم على منزل الصوراني مثيرًا للقلق بشكل خاص، بين جميع عمليات القتل الوحشية التي وقعت الشهر الماضي هو أن راجي، الحائز على جائزة روبرت كينيدي لحقوق الإنسان، يرمز على مدى 40 عاماً إلى محاولة استخدام القانون للرد على الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين المدنيين، والتي تشمل جرائم الحرب، والعقوبات الجماعية، وبناء المستوطنات غير القانونية، والفصل العنصري.

أتذكر جلوسي بجوار الصوراني في لاهاي في ديسمبر/كانون الأول 2020 عندما نظر في عيني المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية آنذاك فاتو بنسودا وطلب منها أن تخبر الفلسطينيين أن بإمكانهم الثقة في المحكمة الجنائية الدولية للاهتمام بمحنتهم، وأن المحكمة يمكن أن تؤكد لهم أن القانون الدولي لا يزال ذو قيمة، وأن العنف لن يكون هو السلاح الوحيد المتاح أمامهم.

ولكن الحقيقة هي أن كل محاولة لاستخدام المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المؤسسات لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين قانونياً تم تهميشها أو نزع شرعيتها عنها وتصويرها “حرب قانونية”، أي أنها جزء من صراع سياسي أكثر من كونها عمليات قانونية حقيقية، وأنها ليست إجراءات قانونية مشروعة، بل على أنها مناورات تكتيكية في صراع سياسي.

ولم يتم رفض الشكاوى المقدمة في أوروبا ضد القادة الإسرائيليين على أساس “الاختصاص القضائي العالمي” ــ أو ما يسمى “مبدأ بينوشيه” في السعي إلى تحقيق العدالة في المحاكم في الخارج ــ فحسب؛ بل في بعض الحالات، تم تقليص استخدام القوانين المعنية بحيث لا يمكن إعادة مثل هذه القضايا مرة أخرى في المستقبل.

كانت الجهود الفلسطينية للاعتماد على المحكمة الجنائية الدولية تسير ببطء على مدى خمسة عشر عاماً تقريباً منذ قدمت السلطة الفلسطينية إعلاناً بقبول اختصاص المحكمة في يناير/كانون الثاني 2009، في أعقاب عملية “الرصاص المصبوب” التي شنتها إسرائيل، والتي خلفت أكثر من 1400 قتيل من سكان غزة.

أمضى المدعي العام لويس مورينو أوكامبو، تحت ضغط قوي من الولايات المتحدة (وهي ليست حتى طرفاً في المحكمة الجنائية الدولية)، ثلاث سنوات في النظر فيما إذا كان يتمتع بالسلطة القضائية قبل إحالة القضية إلى هيئات أخرى تابعة للأمم المتحدة، وبعد أن اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين كدولة مراقبة، وصدقت فلسطين في عام 2015 على نظام روما الأساسي الحاكم للمحكمة الجنائية الدولية، أجرت المدعية العامة بنسودا، على حد تعبيرها، “فحصًا أوليًا دقيقًا… استمر ما يقرب من خمس سنوات” قبل فتح تحقيق رسمي في مارس/آذار 2021، في وقت كانت فيه فترة ولايتها البالغة تسع سنوات على وشك الانتهاء.

وبحلول ذلك الوقت، كانت إدارة ترامب قد فرضت عقوبات على بنسودا بسبب تحقيقها في الجرائم الأمريكية المزعومة في أفغانستان، ولعرقلة أي إجراء جديد قد تتخذه المحكمة الجنائية الدولية بشأن فلسطين. وحتى في عام 2021، عندما رفعت إدارة بايدن تلك العقوبات عن بنسودا، حافظ وزير الخارجية أنتوني بلينكن على “اعتراض الولايات المتحدة الطويل الأمد على جهود المحكمة لتأكيد الولاية القضائية على أفراد من الدول غير الأطراف مثل الولايات المتحدة وإسرائيل”.

على النقيض من ذلك، عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، قام المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية، البريطاني كريم خان، الذي تم انتخابه بدعم قوي من المملكة المتحدة وأمريكا، بزيارات متعددة إلى بلد وصفه بأنه “مسرح جريمة”، وفتح أكبر تحقيق في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية، وجمعت المحكمة مبالغ غير مسبوقة من الأموال من خارج الميزانية والموظفين المؤقتين من الدول الغربية.

حتى الولايات المتحدة أعربت عن دعمها لتحرك كريم خان، على الرغم من أن المحكمة الجنائية الدولية كانت تمارس اختصاصها القضائي على مواطني دولة – روسيا – التي، مثل إسرائيل والولايات المتحدة، لم تكن طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية، وبحلول مارس/آذار 2023، أصدر خان مذكرة اعتقال بحق فلاديمير بوتين بسبب ترحيل آلاف الأطفال من أوكرانيا.

راجي الصوراني كان من مؤيدي عملية التحقيق في أوكرانيا، لكنه أعرب في ذلك الوقت عن أسفه لأن المدعي العام لم يقم بأي محاولة مماثلة لجمع أموال خارجية لتمويل التحقيق في فلسطين، ولم يتحدث قط عن “مسرح جريمة”، ولم يسع بصورة جدية لزيارة فلسطين.

أعلن خان في جمعية المحكمة الجنائية الدولية في ديسمبر/كانون الأول 2022 أنه يأمل في الذهاب إلى فلسطين في عام 2023، لكن من المعروف أن إسرائيل رفضت طلبه.

الحقيقة هي أنه حتى اليوم، لم يضطر أي مسؤول إسرائيلي إلى مواجهة اتهامات دولية على جرائم ارتكبت على مدى عدة عقود من الصراع، الأمر الذي خلق شعورا بضمان الإفلات من العقاب.

بعد أن نجا من قصف منزله، قال الصوراني في تصريح لـ “الديموقراطية الآن”: اعتبر خان “متواطئا” من خلال عدم نشاطه في الجرائم التي تتكشف الآن في غزة”. (في الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال، لا يزال الصوراني في مدينة غزة، قريباً جداً من القنابل الإسرائيلية، وغير قادر الآن على الخروج).

وفي مواجهة الفظائع المتزايدة والانتقادات المتزايدة لفشل المحكمة الجنائية الدولية في التعليق، خرج خان عن صمته، حيث زار معبر رفح بين مصر وغزة في 29 أكتوبر/تشرين الأول، وأعقب ذلك بخطاب عاطفي قوي على نحو غير عادي في القاهرة، والذي أثار دهشة الجميع.

وتحدث بالتفصيل عن هجمات حماس الوحشية واحتجاز الرهائن في 7 أكتوبر/تشرين الأول، والتي وصفها بالجرائم، وشدد على تحذير الحكومة الإسرائيلية من أن أي هجوم قد يؤدي إلى مقتل مدنيين يجب أن يتوافق مع المبادئ المنصوص عليها في القانون الدولي المتمثلة في “التمييز والاحتياط والتناسب”. بمعنى آخر، في أي وقت يضرب فيه الإسرائيليون منزلاً، أو مدرسة، أو مستشفى، أو كنيسة، أو مسجدًا، عليهم أن يتذكروا أن مثل هذه الأماكن تتمتع بوضع الحماية – “ما لم يتم فقدان وضع الحماية”

في الواقع، يجب الانتباه إلى أنه لم يتحدث أي مدع عام إلى إسرائيل بهذه الصراحة من قبل، والسؤال الآن هو ما إذا كان خان سيتخذ فعلًا إجراءات لمتابعة كلماته القوية! هل سيتحرك في فتح ملفات اتهامات الفصل العنصري وجرائم الحرب، بما في ذلك التوسع في بناء المستوطنات غير القانونية، التي ظلت على مكتبه لسنوات؟ هل ستسمح له إسرائيل بالتحقيق على الأرض؟ هل تتخلى الولايات المتحدة عن اعتراضها الطويل الأمد على دور المحكمة الجنائية الدولية؟ هل سيكون هناك أخيراً مجال للمساءلة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟

ملاحظات:

مبدأ الولاية القضائية العالمية: هو مفهوم قانوني يسمح للمحاكم الوطنية بمحاكمة الأفراد على جرائم خطيرة مثل الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن مكان ارتكاب هذه الجرائم وبغض النظر عن جنسية مرتكبيها أو جنسية الضحايا.

 

“مبدأ بينوشيه” في السعي لتحقيق العدالة في المحاكم في الخارج: إشارة إلى سابقة قانونية شهيرة أرساها اعتقال الدكتاتور التشيلي السابق أوغستو بينوشيه في لندن عام 1998. وقد اعتقل بينوشيه يوم مذكرة إسبانية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في تشيلي، بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية. أوضحت هذه القضية كيف يمكن للمحاكم الوطنية أن تحاكم أفرادًا أجانب على جرائم خطيرة ارتكبوها خارج بلادهم.