كشفت الأحداث التي مر بها العالم العربي منذ اندلاع ثورات الربيع حتى الآن عن سلبيات عديدة يعاني منها الإسلاميون، ولا أعني هنا القطاعات المنتسبة زورا للحركة الإسلامية والداعمة لتسلط الطغاة والمستبدين، إنما أعني القطاعات صاحبة الرسالة، والساعية إلى نشر العدل في الأرض ورفع الظلم.

إن أحد أبرز السلبيات الخطيرة التي تعاني منها تلكم القطاعات تتمثل في عدم امتلاكها رؤية واضحة، ولا خطط ميدانية تواكب مستجدات الواقع، ومن ثم تعيش في تيه لا تدري ماذا تفعل، ولا من أين تبدأ، وتدور في حلقات مفرغة لتكرر أخطائها دون الاستفادة من رصيد الخبرات المتراكم لديها عبر عقود، فمثلا عقب نجاح ثورة يناير بمصر في الإطاحة بحسني مبارك وكبار أعوانه من سدة الحكم، لم تمتلك الحركة الإسلامية المصرية بمختلف تياراتها رؤية واضحة بخصوص خطواتها المستقبلية، ولم تسر وفق خطط مدروسة كي تحقق أهدافها المنشودة، فرأينا تخبطا واضحا، وفوضى ضاربة الأطناب، وليس مقصدي هنا الانتقاص من أحد بل الغرض توصيف الواقع توصيفا صحيحا كي  نخرج بحلول عملية.

الرؤية والتخطيط في الغرب

 التجارب البشرية تمثل وعاء للخبرة الإنسانية، ومن ثم فمن المهم الاطلاع على كيفية تعامل الغرب مع المشكلات التي تواجهه. وقد سعيت للبحث في ذلك فوجدت أن الغرب يراكم خبراته ويدون الدروس المستفادة من الأحداث التي تمر به، ومن ثم ينتج إصدارات مرجعية  تحدد كيفية التعاطي مع الأحداث الشبيهة، بحيث عندما يتعامل مع قضية معينة يتحرك في ضوء رؤية متكاملة ومسارات واضحة، ويسعى فقط للتكيف والتعامل بمرونة مع الأزمة المستجدة لتحقيق أهدافه. فمثلا عندما يواجه الغرب أزمة اندلاع تمرد ضد حكومة موالية له، لا يقف القادة والمخططون الغربيون تائهون لا يدرون ماذا يفعلون، إنما يطبقون فورا  التوجيهات المتضمنة في عقائد مكافحة التمرد الصادرة عن المؤسسات المتخصصة في التعامل مع هذا الملف. فعندما تورطت أميركا في غزو العراق وأفغانستان، وبدأت تجابه مقاومة شرسة من قبل تنظيمات وجماعات إسلامية ووطنية، تم تشكيل لجان رفيعة المستوى لدراسة الوضع والخروج بتوصيات عملية مثل لجنة (بيكر- هاملتون). كما بدأ الجيش الأميركي يراجع عقيدته لمكافحة التمرد، ومن ثم أصدر دليلا ميدانيا جديدا لمكافحة التمرد (F:24-3 ) في ديسمبر عام ٢٠٠٦ قال في مقدمته ( تم تصميم هذا الدليل لسد ثغرة في العقيدة العسكرية الأمريكية، فقد مر عشرون عاما منذ أن أصدر الجيش الأميركي دليل ميدان مخصص لمكافحة التمرد.. ومع وجود جنودنا في أفغانستان والعراق يحاربون التمرد والمتمردين، فقد وجدنا أنه من المهم أن نقدم لهم دليلا يوفر المبادئ والارشادات الخاصة بعمليات مقاومة التمرد. ووجدنا بأنه ينبغي أن يكون لهذا الدليل أرضية تستند على التجارب التاريخية من ناحية، وأن يستند على الخبرات المعاصرة من ناحية أخرى. ومع ادراك أن كل تمرد له ظروفه الخاصة إلا أن هناك خصائص عامة لحركات التمرد يساعد هذا الدليل على فهمها ومجابهتها). وسعى الجيش الأميركي لتنفيذ تعليمات هذا الدليل، ونجح في احراز تقدم ميداني كبير في العراق بدءا من العام ٢٠٠٧، ثم أعاد تطوير هذا الدليل مجددا، ونشر آخر تحديث له عام ٢٠١٤، واتبع توجيهاته أثناء حملته على تنظيم الدولة الإسلامية.

ولم يقتصر الاعتناء بمكافحة التمرد على الجيش الأميركي، إذ أصدرت الحكومة الامريكية دليلا يُعنى باستراتيجيات مكافحة التمرد عام ٢٠٠٩ اشتركت في إعداده العديد من الوزارات والوكالات الأمريكية مثل وزارات الدفاع والخارجية والعدل والأمن الداخلي والنقل والخزانة والزراعة والمخابرات الوطنية والوكالة الامريكية للتنمية الدولية. وقد بينت الحكومة الأمريكية أهمية هذا الدليل في مقدمته قائلة( يمكن القول بأن هذا الدليل هو الأول من نوعه فيما يقرب من نصف قرن، وهو أفضل عمل عقائدي في موضوعه، إذ يستخلص زبدة ما في الفكر المعاصر والمعرفة التاريخية والممارسة الواقعية المكتسبة بشق الأنفس، كما يتسم بالعملية بالرغم من صرامته الفكرية) وبينت الهدف من إصداره قائلة(بالرغم من أن مشاركة الولايات المتحدة في مكافحة أي تمرد محدد مسألة خيار سياسي، فإن انخراطها في مثل هذه الصراعات خلال العقود القادمة أمر شبه مؤكد. وسيساعد هذا الدليل في تهيئة واعداد صانعي القرار من عدة نواحي للمهام الناتجة عن هذه الحقيقة). وقدم الدليل آلية الاستفادة منه قائلا(سيخدم هذا الدليل على نحو أفضل إذا لم يعامل كمجموعة محددة وصارمة من الوصفات، وإنما يجب التعامل معه كمحفز للتفكير الإبداعي المنضبط). أما مضمون الدليل فقد شمل (تعريف التمرد واستراتيجياته، ومكافحة التمرد واستراتيجياتها، والأطراف الفاعلة المشتركة في حملات مكافحة التمرد، وكيفية التعاطي مع كل طرف، كما شرح كيف يتم تقييم وضع التمرد، وصياغة سياسة واستراتيجيات مكافحته، وخطوات التخطيط المتكامل والتنفيذ والرصد المستمر والتقييم).

ما الحل؟

 إثر هذا الاستعراض السريع لكيفية تعاطي الغرب والدول الكبرى مع الأزمات التي تواجهها نجد أنها تنطلق من منطلقات عقلية صحيحة تُعنى بتدوين الخبرات ودراسة التجارب، وصياغة إرشادات منهجية بخصوص التعامل مع الأحداث الشبيهة، وهذا المنهج دلنا عليه الوحي ابتداء في العديد من الآيات كما في قوله تعالى (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) وفي حثه سبحانه وتعالى لنا على التدبر والتفكر وإعمال العقل، فضلا عن الوصية بالنبوية بألا يلدغ مؤمن من جحر مرتين، بينما نرى البعض يدمن اللدغات من نفس الحجر بشكل دوري. ويتعامل مع الواقع بضبابية وغموض وتيه بعيدا عن أي منهج عقلي سليم، ومن ثم فإن هناك عدد من المقترحات لحل هذه الاشكالية منها:

  • الاهتمام بدراسة تجارب الحركات الإسلامية وتدوين خلاصة العبر المستفادة منها ونشر نتائج تلك الدراسات وتعميمها لتجنب تكرار الأخطاء وإدراك مكامن الخلل ونقاط الضعف التي تحتاج لعلاج. وقد حاولت كمساهمة في هذا المحور القيام بتدوين تجارب بعض الحركات والتنظيمات الإسلامية المصرية ونشرها وإن كان هذا تم على شكل جهد فردي لا كعمل جماعي تقدم له أوجه الدعم والتعاون المطلوبة.
  • دراسة الإصدارات المرجعية الغربية المتعلقة بكيفية رفع الواقع وتقييمه وصياغة السياسات والاستراتيجيات المتعلقة به، وقد بدأت بالفعل مع بعض الأصدقاء في مشروع جماعي لترجمة ونشر أبرز تلك الإصدارات، وسيُنشر قريبا بعون الله أولى ثمرات هذا المشروع، وهو دليل الحكومة الأمريكية لمكافحة التمرد. وهذا المحور يحتاج لتكاتف جهود المراكز البحثية والداعمين لتسريع معدل ترجمة الدراسات المهمة فيه، بدلا من الجهود العقيمة التي تقوم بها معظم المراكز البحثية حاليا بترجمة ونشر إصدارات في مواضيع ثانوية لا تغني ولا تسمن من جوع.
  • صياغة إصدارات مرجعية تستفيد من الخطوتين السابقتين بدراسة التجارب والاطلاع على الخبرات البشرية ، بحيث تكون لدى الحركات الإسلامية إصدارات متخصصة تقدم رؤية واضحة ومسارات محددة لصانعي القرار خصوصا ولعموم الإسلاميين تبين كيف يتم التعامل مع الثورات وإدارة الدول أثناء الفترات الانتقالية وأثناء الاضطرابات وما شابه.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة