ما أكثر غرابة علاقة الإنسان بالمناخ والجغرافيا والفلك؛ فجميعها يمكنها أن تغير من مزاجه النفسي وممارساته اليومية وتفضيلاته بالمأكل والملبس وكافة أشكال الحياة، وكأن نفس الإنسان بعمقها هى انعكاس للأفق باتساعه وتقلبه.

ولعل أكثر الفصول تأثيرًا على حالة الإنسان المزاجية هو “فصل الشتاء” ففيه تجد من يتحدث عن الرومانسية وميله للهدوء والكتابة والسماع للموسيقى الهادئة وتناول المشروبات الدافئة، رومانسية تنسحب للبحث عن شريك الحياة أو عن توطيد العلاقة بالبيت والأسرة فتصبح هى رمزًا للدفء، وفي حالة وجود مشاكل في أي من تلك العلاقات يشعر الإنسان بأزمة مضاعفة في فصل الشتاء.

غير أنه ليس دائماً ما تسير الأمور  في هذا الاتجاه، فقسم آخر من البشر تميل حالتهم النفسية إلى “الاكتئاب” في هذا الفصل، لا يرتاحون للمناخ الخالي من الشمس الممتلئ بالغيوم فيغمرهم هذا بشعور من الحزن والخوف ويدفعهم للخمول وقلة الحركة.

بل وقد يصل الأمر إلى الرغبة في البكاء وشعور بثقل في الذراعين والساقين أكثر من المعتاد والنوم لفترات مبالغ في طولها وتغيرات في الشهية غالبا ما ترتبط بميل لتناول مزيد من الكربوهيدرات وهو ما قد يؤدي إلى زيادة في الوزن مما يزيد الشعور الاكتئاب.

الاكتئاب الموسمي

التفت أطباء علم النفس لتلك الحالة المنتشرة ووضعوا نظرياتهم حول “الاكتئاب الموسمي”، إلا أن أعراضه قد تتشابه كثيرا مع أعراض الاكتئاب  النفسي وقد يصعب التفريق بينهما، لذلك فعادة ما يفرق الطبيب بينهما بسؤال المريض عن أوقات الإصابة بالاكتئاب فهل تتكرر أعراضه لديك في نفس الشهور من كل عام ومتى تعرضت له مؤخرًا، ومن خلال هذه الأسئلة يتمكن من تحديد حالة الاكتئاب هل هو موسمي أم لا ثم يحدد العلاج المناسب للاكتئاب الموسمي.

ويعرف طبيا بأنه أحد أنواع الاكتئاب المرتبطة بالتغيرات المناخية، فمواعيد الإصابة ثابتة فبداياته ونهاياته تتكرر في نفس الوقت من كل عام، وأشهر مواسم ذلك الاكتئاب هو ذلك الذى يبدأ في الخريف ويمتد طوال شهور الشتاء- وقد يحدث ايضا ظهور هذ النوع من الاكتئاب في فصل الصيف أو الربيع ولكن ذلك نادرا- ولكنه  نوع غير حاد  حيث إن حالة المناخ بالشتاء تؤدي إلى تغير إيقاع الساعة البيولوجية، بسبب تغير عدد ساعات الليل والنهار وانخفاض شدة وكمية أشعة الشمس، كل هذا يؤدي إلى تغير كيميائي بالمخ فيحدث انخفاض بمستوى السيروتونين (Serotonin)، وهو أحد المركبات الكيميائية أو المادة العصبية الموجودة في الدماغ وهي التى تؤثر على الحالة المزاجية وبشكل خاص هي المسئولة عن الشعور بالسعادة وهو ما يحدث بدوره بسبب نقص في فيتامين د (Vitamin D) الذي تساعد أشعة الشمس أكثر من غيرها على تخليقه داخل جسم الإنسان.

أما في ليل الشتاء الطويل فتحدث زيادة في  إفراز هرمون الميلاتونين (Melatonin) في الجسم نتيجة زيادة عدد ساعات الليل وقلة التعرض للشمس نهارا، إذ إنه المسئول عن النوم، والحالة المزاجية، فقد يؤثر على التوازن الطبيعي للجسم، ويؤدي للشعور بالخمول وانخفاض في النشاط، بالإضافة إلى اضطرابات النوم ومواجهة التقلبات المزاجية.

يصبح الأمر أكثر صعوبة إذا ما ارتبط بضغوطات عصبية ونفسية أخرى ومشكلات تتفاعل سويا فيأخذ الاكتئاب منحى آخر حادا قد يستلزم استشارة طبيب، وتهتم المدونات الطبية بوضع الملامح التي يمكن للإنسان أن يتعرف من خلالها أن مستوى الضغط العصبي عنده قد زاد عن الحد الطبيعي وأصبح خطرا ومن تلك الملامح  انخفاض القدرة على التركيز  وضعف الذاكرة وسرعة الغضب والشعور باليأس والحركات اللاإرادية مثل قضم الأظافر أو نتف الشعر والبكاء لأي سبب أو عدم القدرة على البكاء مطلقا واضطراب النوم وعند أوقات السعادة يتملك شعور دفين بالحزن والميل الزائد لتناول الطعام أو النفور منه  وتزايد رقعة التوقعات السلبية المخيفة وظهور أعراض مرضية جسمانية مثل الصداع، القولون، سقوط الشعر، آلام الظهر، الشعور بالإجهاد المستمر، ارتفاع ضغط الدم.

كما تسيطر على سلوكيات غير متأصلة على المصاب بهذا الاكتئاب مثل عدم تحمل البقاء لفترة طويلة مع الناس، وكذلك التعامل بحساسية زائدة إذا تم توجيه أي انتقاد له ولو على سبيل المزاح، الرغبة في النوم لفترات طويلة، وقد يحدث أيضا شعور بثقل في الأيدي والرجل.

وهكذا يصبح الأمر أشد صعوبة حين تتحد ضدك تغيرات المناخ وتقلبات الحياة، وللأسف إهمال هذه الحالة الحادة من الاكتئاب قد تدفع نسبة محدودة  من البشر لأفكار سوداوية تتعلق بالانتحار والانسحاب الاجتماعي وتعاطي المخدرات.

وكما هو المتوقع فإن هذا الزائر الموسمي تزاداد معدلات الإصابة به عند النساء أكثر من الرجال، وعند الشباب أكثر من كبار السن نظرا للتقلبات العاطفية الشديدة.

علاج الاكتئاب الموسمي

وعليه ينصح الأطباء في فصل الشتاء بعدم الارتكان لهذا الشعور ومقاومته عبر تعريض الجسم للشمس قدر المستطاع بالنهار سواء بالمشي وعدم البقاء بالبيت، وكذلك بفتح النوافذ وعدم الارتكان لإغلاقها، ممارسة الرياضة بلا شك تلعب دورا كبيرا، أما في الطعام تأتي الخضروات والفاكهة والمشروبات والبطاطا الساخنة كسبيل لتنشيط السعرات الحرارية بالجسم.

وينصح الأطباء للخروج من حالة الاكتئاب الموسمي اتباع  عدة طرق مختلفة للعلاج على حسب درجته أولها العلاج الضوئي وهو عبارة عن إبدال أشعة الشمس الطبيعية بنوع آخر من الأشعة يتعرض لها المريض عبر بث الضوء من خلال صندوق حيث يجلس المريض أمام صندوق مضيء لمدة نصف ساعة تقريبا يوميا في فترات الصباح وأحيانا يتبع طريقة أخرى تحاكي طلوع الصباح في تدرج سطوع الضوء حيث يتم تعريض المريض للضوء الخافت ثم يزيد تدريجيا كضوء الشمس.

وقد اتضح من خلال التجارب أن هذه الطريقة تحدث تغييرا في مستوى بعض المواد الكيميائية التى يفرزها المخ والتي من شأنها التأثير على الحالة المزاجية .

وأكد الأطباء أن نسب النجاح من خلال العلاج الضوئي كانت أفضل كثيرا من طرق العلاج الأخرى، وغالبا ما تبدأ الحالة في التحسن بعد أسابيع قليلة من العلاج المنتظم، هذا بالإضافة إلى عامل مهم آخر في هذه الطريقة وهو ضعف التعرض لآثار جانبية.

أما العلاج الدوائي فيضطر إلى اللجوء إليه  في بعض الحالات الشديدة التى تتطلب ذلك لإعادة توازن المخ والسيطرة على إفراز الهرمونات المسئولة عن تقلب المزاج، وهنا ينصح الطبيب باستخدام مضادات الاكتئاب التى قد تأتي بالنتيجة المطلوبة إلا أنه يجب الحذر من استخدام بعض الأنواع حيث يمكن مناقشة الطبيب للاتفاق على الدواء المناسب الذي قد يكون أقل في الآثار الجانبية التعلقة به ومراعاة اتباع تعليمات الطبيب في استخدام تلك الجرعات التى قد تؤدي
إلى نتائج عكسية أو قد تزيد من حدة الآثار الجانبية لتلك الأدوية.

أما العلاج النفسي، وقد يطلق عليه كذلك العلاج الكلامي وهو من ضمن الطرق المقترحة في علاج الاكتئاب، هو يتميز ببعض الأساليب التى قد تساعد المريض بالتعرف على الأفكار وكذلك السلوكيات السلبية “” Advertisement  مما يسهل طرق تجنبها أو استبدالها بأفكار إيجابية لتخلصك من تلك المشاعر المحزنة ومن ثم الاكتئاب، كما أنها تمكنك كذلك من التعرف على سبل التحكم في الغضب، والمساعدة على إيجاد حلول بديلة لتجعلك تتخطى هذه المرحلة بأقل خسائر ممكنة.

وربما لا يعير البعض الاهتمام بالعلاج النفسي.. إلا أن الاهتمام بالصحة لابد فيه من مراعاة الجانين الجسدي والنفسي وقد يكون المشى هو الوسيلة التى تحقق التوازن لكلا الأمرين ويحبذ أن يكون تمرين المشى صباحا حتى يتعرض الجسم إلى أشعة الشمس والتى بدورها  تمد الجسم بفيتامين “د” الذى يعود على الجسم بفوائد عدة، كما أن ممارسة الأنشطة الرياضة بشكل عام عام خلال فترات النهار قد يكون كذلك مفيدا للخروج من هذا الشعور الكئيب.

ولا زال الأطباء يبحثون عن الأسباب وراء هذا الاكتئاب الموسمي، ولكنهم يرجحون أن بعض الأشخاص لديهم حساسية تجاه وجود الضوء أو انعدامه حيث إن التجارب أثبتت أن هؤلاء الأشخاص المصابين بالاكتئاب الموسمي تتحسن حالتهم عند تعرضهم لضوء ساطع.