في الثاني عشر من فبراير عام 1949 تعرض مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الاستاذ حسن البنا لحادث اغتيال أودى بحياته في قلب القاهرة على يد عناصر القسم المخصوص المُناط به مسؤولية الأمن السياسي آنذاك. وأعقب الحادث اعلان وكيل وزارة الداخلية عبد الرحمن عمار إثر اعتقال الشرطة لثمانين من عناصر الجماعة “أن الإرهابيين قتلوا شيخهم خوفا من وشايته بهم”.
في ثمانينات القرن الماضي دون الكاتب الصحفي محسن محمد كتابا مهما بعنوان “من قتل حسن البنا؟” ضمن سلسلة كتب نشرها تناولت تاريخ مصر في القرن العشرين وفقا للوثائق البريطانية والأمريكية المرفوع عنها السرية. وقد كشف الكتاب المذكور طبيعة التقييمات البريطانية للبنا وجماعته. كما وثَّق الحملات الإعلامية المشوهة للرجل قبيل اغتياله، وهى تماثل الحملات الجارية اليوم بعد مضي قرابة 70 عاما على وفاته.
وُلد حسن البنا عام 1906 وأسس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 وخلال السنوات الأولى من تأسيسها حاول البنا الابتعاد بجماعته الوليدة عن الشأن السياسي، فنصت المادة الثانية من لائحة الجماعة الداخلية الصادرة عام 1930على أنها “جمعية لا تتعرض للشؤون السياسية أيا كانت” وسعى البنا بذلك للمناورة كي يتمكن من تمتين بناء الجماعة الداخلي، وإعدادها لدخول حلبة الصراع مع المحتل البريطاني والملك والأحزاب السياسية.
لم تحظ الجماعة آنذاك باهتمام الأجهزة الأمنية التي اعتبرتها مجرد جماعة تدعوا للاهتمام بالأخلاق والأعمال الخيرية، فكتب رئيس القسم المصري بوزارة الخارجية البريطانية سكريفنر إلى مركز مخابرات الشرق الأوسط بالجيش البريطاني قائلا “لا يوجد ما يدعو للاهتمام الجدي بأمر هذه الجماعة”.
بدأ التغير في الموقف البريطاني إثر هجوم مجلة النذير التابعة للإخوان على معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا عام 1936. ومن ثم طلبت بريطانيا عام 1940 من رئيس الوزراء حسين سري تحجيم نشاط الإخوان، فطرح سري قانون يحرم على الجمعيات الخيرية المشاركة في العمل السياسي. وفي العام التالي طلبت المخابرات البريطانية من سري اعتقال البنا ووكيل الجماعة أحمد السكري بمبرر أن الإخوان يقومون بدعايات مضادة للإنجليز، ويجمعون معلومات عن تحركات القوات البريطانية، فاعتقلتهما الحكومة، وأُغلقت صحف الجماعة ومطبعتها، ومنُعت الصحف من نشر أي أخبار عنها.
مع قرب نهاية الحرب العالمية الثانية أخذ الاهتمام البريطاني بالجماعة يتزايد لعدة أسباب منها: خشية الإنجليز من استغلال الإخوان لانتهاء الحرب لإشعال ثورة شبيهة بثورة 1919 التي طالبت بالاستقلال بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ولدعم الإخوان لأهلنا بفلسطين في صراعهم مع المستوطنين اليهود، ولتكوين الجماعة جناحا عسكريا نفذ عدة عمليات ضد الأجانب في مصر. وقد عبر تقرير للسفارة البريطانية بتاريخ 25 فبراير 1944 عن هذه التخوفات قائلا “أصبحت الجماعة خطرًا محتملاً لا يمكن أن نسقطه من حساباتنا بسبب طابعها العسكري والمعادي للأجانب”.
كما عقب جيمس بوكر القائم بأعمال السفير البريطاني على مطالبة الجماعة بتأميم قناة السويس في مؤتمرها العام المنعقد سنة 1945 قائلا “هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها حسن البنا أن للجمعية أهدافا سياسية، وكان دائما يحاول اقناع الحكومة والسفارة بأن الجمعية لا تتدخل في السياسة”.
ومع تزايد حوادث العنف السياسي التي نفذها النظام الخاص، أرسل الوزير البريطاني المفوض تشابمان أندروز رسالة إلى القصر الملكي قال فيها “هذه الأحداث -الانفجارات والاغتيالات- هي النتيجة الطبيعية للسماح لمنظمات مثل الإخوان المسلمين بالخروج عن نطاق السيطرة … ومن المعروف أن الإخوان المسلمين والحاج أمين الحسيني مفتي القدس السابق يملكون مخازن كبيرة من المتفجرات والأسلحة لاستخدامها في فلسطين ظاهريًا، وسماح أي حكومة بمثل هذا الوضع يعتبر بمثابة دعوة لحدوث متاعب من هذا النوع، وتستطيع الحكومة بالـتأكيد أن تقوم بعمل فعال لتحطيم هذه المنظمات”.
هذا العمل الفعال الذي طالب به أندروز نفذته الحكومة المصرية إثر مقتل حكمدار العاصمة اللواء سليم زكي يوم 4 ديسمبر 1948 في مظاهرات بجامعة القاهرة اُتهم الإخوان بالتحريض عليها والمشاركة فيها. وصدر قرار من رئيس الوزراء محمود النقراشي في مساء 8 ديسمبر بحل الجماعة، وإغلاق الأماكن المخصصة لنشاطها، وضبط أوراقها وسجلاتها وأموالها وممتلكاتها، وحظر اجتماع خمسة أشخاص أو أكثر من أعضائها، وحدد القرار عقوبة المخالفين بالحبس مدة تتراوح بين ستة شهور وعامين، وبغرامة تتراوح من 200 إلى 1000 جنيه، كما ضُمت المدارس التابعة للجماعة لوزارة المعارف، والمستوصفات لوزارة الصحة، والشركات وضعت تحت إشراف وزارة الداخلية للإنفاق منها بمعرفة وزارة الشئون الاجتماعية على الأعمال الخيرية.
احتفت الصحف بقرار الحل، فقالت صحيفة الحوادث المعبرة عن لسان حزب الوفد “يجب اعتبار يوم الحل عيدًا للديموقراطية يُحتفل به، كما تحتفل أوربا بزوال كابوس الفاشية، حيث أنقذ النقراشي البلاد من عار ملفوف بثياب الفضيلة”. أما عباس العقاد فكتب مقالاً بعنوان (مدرسة الجريمة) قال فيه “ما من أحد يحتاج إلى تعب ليعلم أن جماعة المجرمين فتنة أجنبية يزودها بالمال والسلاح أناس لا يريدون خيرًا بالإسلام والمسلمين” ولم تُكتب كلمة واحدة دفاعا عن الجماعة بسبب الرقابة على الصحف.
بعد قرار الحل بيومين زار رئيس الديوان الملكي إبراهيم عبد الهادي السفارة البريطانية؛ فقال له السفير رونالد كامبل “اعتقد أن الحكومة تأخرت أكثر من اللازم في اتخاذ قرار الحل”. فرد عبد الهادي “لا أظن ذلك، قمعهم سيستمر بقوة”. وبالفعل اعتقلت الشرطة كل أعضاء مكتب الإرشاد وقرابة6000 فرد من عناصر الجماعة وفقًا لتقديرات عبد القادر عودة، فرد النظام الخاص باغتيال رئيس الوزراء محمود النقراشي مما زاد من تأجج الأوضاع. واُتخذ قرار من قبل الملك فاروق بتصفية البنا، وقدرت السفارة البريطانية في تقرير لها مطلع 1949 أن قتل البنا سيؤدي لتفكك الجماعة فقالت “يمكن لجماعة الإخوان أن تنهار للأبد، إذا أزيح حسن البنا عن قيادتها لأي سبب، مع غياب أي خليفة له نفس القدر من الشخصية القيادية، والذكاء اللذان يتمتع بهما البنا”. وبالفعل اغتيل البنا في 12 فبراير 1949 على يد مجموعة من عناصر القسم المخصوص يقودهم الضابط محمود عبدالمجيد لتنتهي حياته عن عمر 43 عاما بينما استمر التأثير الذي تركه على الحركة الإسلامية حتى اليوم.
اضف تعليقا