قبل عام.. حين أتيتُ إلى هنا، حكى لي صديقي عن أصدقائنا الذين لا يراهم منذ عامين إلا أمام الحانات والخمارات والكباريهات؛ صُدمتُ، وقبل أن أسأل عن السبب، أخبرني أنّ فلانًا كان يتقاضى “ملاليم” الكفالة الشهرية قبل أن يغضبوا عليه بسبب كتاباته على مواقع التواصل؛ فقرروا منع الدعم عنه، وفي اليوم التالي اضطُّر صاحبنا إلى المبيت في الشارع، وفي اليوم الثالث اضطر، وفي اليوم الرابع قال: ولمَ الاضطرار؟ أهذا هو الله العادل الرحيم الذي في لحاهم وعلى جبهاتهم؟ اللهُ ليس عادلا، وليس رحيما، وليس هناك الله أصلا، وأنا إلهي الرحمةُ وضالَتي الراحمون؛ فوجد من المتسكعين في الشوارعِ رحماءَ يكفلونه بأموالهم المجنيّة من القمار، ووجد راحة في شققهم الجانية للمتعة، ووجدَ بعيدا عن شقق الجماعةِ، جماعةً أخرى من الإخوانِ.. لكن غير المسلمين..
الموجودون هنا يعلمون بالأسماء أن “العشرات” إما ألحدوا وإما تطرّفوا، ومعروف هذا لدوائرهم القريبة.
صديقي المبدعِ في الإلكترونيات، كان لديه في مصر محلّ كبير للصيانة، إلى أن حُكم عليه عسكريًّا؛ فاضطر إلى تركه والهجرة غير الشرعية ظلّ فيها لستة أيامٍ في الصحراء، وهاجر من منفى إلى منفى إلى أن استقرت به أمواجُ الغربة إلى هنا. كان “عبقرينو” الشقّة، أمامه ترقد سبعة أجهزة “لابتوب” وثلاثة أجهزة “تليفون”، كنتُ أمزحُ معه ولم أقصد أن أضايقَه أبدًا، أحبّ حين أرى الرزق يجري في يد غيري أن أدعو له جهرًا بالبركةِ والزيادةِ. حين دعوتُ له، فوجئت بانتفاخ أوداجِه واحمرار وجهه، وتغيير مجرى الحديث، ثم خرجتُ وأنا أسبحُ في مستنقعٍ من قاذورات المشاعر بعد جوابه: “والله ما باخد عليهم شلِن، والله دا كله تبع القيادي فلان، كله بالحب.. اسكت أنت متعرفش حاجة.. الدعم يابا الدعم”، وفي السابعةِ من صباح اليوم التالي وجدته يتأبط ثلاثة أجهزة ليوصلها إلى الأستاذ فلان في بيته، صاحب الفضل والمنّة، وكان هذا قبل عشرة أشهر.
قبل أيام قابلتُه، كان قد تحرر من الساقية التي يدور فيها تحت أمر “مقاول الأنفار”؛ ليعمل غير بعيدٍ.. ولكن بحرّية أكثر، كما كان يظن، لكنه لم يكن يعلم أن “مقاولة الأنفار” فنّ التجارةِ وراء العديد من الأقنعة.. حين جلستُ معه، كان يلعنُ ويسبّ سخطًا على المؤسسة الكبيرة لصاحبها القيادي الدكتور فلان (غير القيادي الأول)؛ لتأخرهم عن دفع “الملاليم” الشهرية التي يتقاضاها مقابل عمله في المؤسسة “حمار شغل إلكترونيات”، ورفضهم دفع الزيادة “المتفَق عليها” حين هددهم بالرحيل، فوعدوه بالزيادة مقابل البقاء؛ لأنه “عبقرينو” المؤسسة الذي يحتاجون إليه.
لكن حين يعمل “عبقرينو” في “وادي عبقر”، فإنه ليس إلا عبدًا مسكينًا.. تحت أمر كبار الشياطين؛ وعبقر هو وادٍ في اليمن اشتُهر منذ الجاهلية بأنه مكانٌ يعيش فيه شعراءُ الجنّ، الذين يحسنون الكلام وأساتذة في الخطابة، لكنهم في النهاية..جنّ يركبُ الإنس.
لم يفُت على وجودي في الشتاتِ شهور حتى قررتُ العمل في “مؤسسة إعلامية”، ذهبتُ وكنتُ على قدرِ إعجاب المدير بي، أخبرني أن للعمل شروطًا أهمها أن أتجاوز بنجاحٍ فترة تدريبٍ تستمر لثلاثة أشهر، ونجاحي فيها هو أهمّ دافع إلى تعييني كموظّف لديهم. كان الدافعُ لي هو أن أضع قدمي على أول درجةٍ في السلم الذي أريد صعوده؛ فوصلتُ الليل بالنهارِ في جدّ لم يجده من “الموظفين” أنفسهم، ونجحتُ في الدور الموكّل إليّ (الذي كلفني به على عكس ما أريد)، حتى وصلتُ إلى ذروة التفاني حين كلفني بتغطية يومِ العيد لأربع عشرة ساعة متواصلة، وكان عيدي الأوّل في الغربة. على مدار أشهر العمل.. كان الجميعُ يلاحظُ إرهاقي، أخرجُ من البيت في العاشرة صباحًا إلى معهد اللغات بالجامعة، ثم بعدها مباشرةً إلى مقر العمل، يتخللهم سيرٌ مِن وإلى محطات المواصلات المختلفة لمسافة تفوق السبعة كيلو مترات، وكانت هذه هي معركتي التي لا يعلم عنها شيئًا.. وبعد انتهاء الثلاثة أشهر حين سألته عن التعيين؛ قال: “مفيش”؛ فتركتُ العمل وأنا محتفظٌ بحقّ الردّ.
قبل مغادرتي للعمل.. خرجنا بعد يومِ عملٍ شاق.. لنتجوّل بسيارة أحد الطيّبين احتفالًا بفرحة الفتى الذي يعمل منذ ثلاثة عشر شهرا كمتدرب، واليوم وقّع عقدًا على تعيينه، كنصف موظف! وسيتقاضى نصف أدنى راتب، لأصغر موظف؛ لأنه كان مجتهدًا في العمل، ولا يملّ من “الزنّ”..
منذ أيامٍ أخبرني صديقي أنه ما زال في مكانِه- مضطرًّا-، للشهر السابع عشر.
قبل مغادرتي قابلتُ وجوهًا منطفئةً لشبابٍ مشرِق؛ يذهبون إلى العمل في العاشرة صباحًا ويتركونه في العاشرة مساءً، وآخرون يستلمون منهم من العاشرة مساءً إلى العاشرة صباحا. ظننتهم موظّفين وقلتُ:” أكل العيش مر” وعليهم التحمل.. كان هذا قبل أن أكتشف أن الأبرياء مجرد متدربين مضطرين إلى المواصلةِ حرصا على 500 ليرةٍ لا تكفي للمواصلات الغالية وإيجار نصف شهرٍ للغرفة الرباعية التي يقيمون فيها.
كانت حياتُهم تسير ببطء نحو مصارعهم، لأنهم يمشون على أقدامهم توفيرا لثمن المواصلات، بينما كانت حيواتُ المديرين تسير بسرعةٍ فائقة؛ لأن سياراتهم كانت “مرسيدس”.
هنا، في ثقافة المديرين وسيكولوجية مديري الأقسام، تتلخصُ الإدارة في أن أخرج الحد الأدنى من العمل المطلوب، بأقل التكاليف؛ ولذا.. يأتي الشابُ المجتهد، يوقع على عقدٍ للمرة الأولى في حياته، ويستبسل من أجل التعيين، ويقنعه مدير العمل أن عقد توظيفه في درج مكتبه، لكن الجميع- ما عدا الفتى- يعلم أن ما في درج المدير ليس عقد تعيينه، وإنما قائمة من المساكين الذين سيجلب أحدهم للتدريب بعد ثلاثة أشهر، حين يعتذر للمسكين الأول.. وسيجلب الثالث بعد ستة أشهر، بعد أن يعتذر للمسكين الثاني.. وهكذا..
هنا في بلاد الشتاتِ والغربة.. حيثُ يعيشُ المساكين و”المتمسكنون” تحت راية الهجرة، ويعيش ذوو القلوبِ الطيبة مع عصابات تجارة الأعضاء تحت راية الدعوة، ويعيش الباحثون عن لقمة العيش مع المتخَمين من كثرة “الفينو” تحت راية الرسالة. يأتي الشبابُ “المعافر” مكملين طريقهم المجهول، ومنفيّين من الوطن المسروق، وفارين من الجبروت الذي في بلاد الشرق.. يهيمون على وجوههم، ويشترون بكرامتهم وأعمارِهم الكلامَ المنمّق الآتي من خلف المكاتب؛ حتى يصدّقوا ويؤمنوا بأنهم هنا يبيعون نفوسهم للقضية، ولا يعلمون أنّ باسم “القضية”.. تجارَ الرقيق.. في دكاكين القضية.. يبيعونهم.
تصدق بالله أنا مش مستغرب كلمة من اللي بتقوله ده لإن تاريخ الجماعة حافل بمثل هذه الخيانات أبرزها كما سمعت عن التجربة السورية لأبو مصعب السوري أنهم ركبوا الثورة السورية أيام الأسد وهربوا للعراق كمتحدثين عن الثورة وجمعوا التبرعات عن المجاهدين ولكن بطونهم بها أولي،تركوا حلب تباد وأكبر قدر من المساعدة كان بضعة شباب غير مدربين علي السلاح حتي.!
وتسليم القيادات في الأردن لقوائم من الشباب المحتمل اعتناقهم للفكر المقاوم والجهاد في فلسطين،وما فعلوه في الجزائر ووقوفهم أول الأمر مع العسكر وقصة علي بلحاج معروفة لكل من قرأ التجربة الجزائرية
نحن الذين نتغافل فقط عن هذه الأحداث بدعوي أنها أعمال فردية..!
خانوا وسيظلوا يخونون..!