اعتاد البعض متابعة مواقع التواصل الاجتماعي لساعات طويلة حتى إن هؤلاء الأشخاص ربما يطلقون على أنفسهم أنهم “مدمنون لمواقع التواصل الاجتماعي” وعلى الرغم من أن هذه العبارة لا تثير انزعاج قائلها ولا حتى سامعها، إلا أنها من الخطورة لكي تستدعي اهتمامًا أكثر  مما نلتفت إليه.

ففي واقع الأمر، أثبتت العديد من الدراسات، أن كلمة “إدمان الإنترنت” هي إدمان بالمعنى الحرفي للكلمة، وأن العلاج منها يتطلب فترة انسحاب، كما أن لها تأثيرات على خلايا المخ، مثل تأثيرات المخدرات دون أدنى فارق في ذلك.

وقد قامت مؤسستان بحجم منظمة الصحة العالمية، والجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، بتصنيف الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي على أنه نوع من أنواع  الاضطرابات في الصحة العقلية.

وقد احتل أمر الإدمان التكنولوجي اهتماما كبيرا في الآونة الأخيرة، حتى أُعلن رسميا في يناير 2018، أن إدمان ألعاب الفيديو – تلك المشكلة القديمة –  سيتم تصنيفه كنوع من أنواع الاضطراب العقلي، من قبل منظمة الصحة العالمية.

كما قد توصل الباحث مارك جريفيث، بجامعة نوتنجهام ترينت، الذي عكف على دراسة إدمان القمار والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، إلى أن الانهماك في استخدام أي من هذه الوسائل لدرجة إهمال كل الأمور الأخرى سواها، هو ما يؤدي إلى الوصول لمرحلة الإدمان، الذي يؤكد أن نوع الإدمان هنا يرتبط بنفس المؤشرات السلوكية لأنواع الإدمان الأخرى، كالتدخين والكحوليات، كما تسيطر تقلبات المزاج، والعزلة الاجتماعية، والتناقض، والانطواء، على مدمن هذه الوسائل وهي التغيرات المصاحبة لإدمان الأنواع الأخرى.

أعراض مرضية

وأوضح “جريفيث” أن الأهم في الأمر، هو قدرة الفرد على التفريق بين الاستخدام المعتدل لوسائل التواصل الاجتماعي، وبين الوصول لمرحلة غير صحية بما يؤثر سلبا على حياته، ويضرب مثالا لذلك بإدمان ألعاب الفيديو، فبالرغم من عدم ظهور مشاكل ذهنية يعانونها في فترة سنتين عكفوا فيها على تلك الألعاب، إلا أن أعراضا أخرى بدت جلية عليهم؛ ومنها السمنة، و بعض المشاكل الصحية المتعلقة بالخمول، حيث إنهم لا يتحركون من مقاعدهم.

ولم يُعِر “جريفيث”  للمدة الزمنية لاستخدام تلك المواقع اهتماما، واعتبرها مسألة غير هامة؛ حيث يكون أحيانا هناك شخصان يقومان بنفس الأفعال إلا أن الظروف المحيطة بكليهما مختلفة، وهو ما يجعل القياس بالفترة الزمنية غير هام، فقد يكون مثلا لأحدهما زوجة وأطفال ووظيفة، فحينها قد يكون نفس الوقت الذي يقضيه غيره -ممن ليست لديه هذه المهام- أمرًا غير دقيق في القياس.

ومثلا، قد أشارت الإحصائيات إلى أن أكثر من ثلث البريطانيين الذين تجاوزوا الـ 15 عامًا يستخدمون الإنترنت يوميًّا لمدة لا تقل عن 6 ساعات، وأغلب هذا الوقت يكون في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم ذلك لا يعانون من مشاكل عقلية أو ذهنية، وهذا يعني أن الأمر لا يتوقف على العامل الزمني فقط، وإنما هناك عوامل أخرى لابد من أخذها في الاعتبار.

ونشر أول بحث على الإطلاق، عن إدمان وسائل التواصل الاجتماعي في عام 2011، والذي أعده “جريفيث” وزميلته داريا كاس، وأشارا فيه إلى أن الأشخاص الانطوائيين يعوضون حرمانهم الاجتماعي عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.

واستكمالا للبحث السابق، واصل الباحثان دراستهما حول نفس الموضوع، وتوصلا في عام 2014، إلى أن التواصل عبر هذه المواقع يعطي المستخدمين الشعور بالتخفف من الهموم لديهم، مما يجعلهم يزيدون من التواصل عبره.

بينما كشف استطلاع  رأى قومي كبير في بريطانيا أجري عام 2017، أن أكثر الفئات ميولا لإدمان وسائل التواصل الاجتماعي هم النساء والشباب وغير المتزوجين، وتحديدًا أصحاب التعليم الأقل والدخل الأقل، وكذلك من ليس لديهم دافع محدد في حياتهم.

ورغم ما توصل إليه “جريفيث” من أن إدمان مواقع التواصل الاجتماعي لا يرتبط بالوقت المستخدم، ولكنه يتعلق بالمحتوى الذي يتم متابعته، فإن مؤتمرا  أجرته الجمعية الملكية للطب في بريطانيا، عن الإعلام الاجتماعي والصحة العقلية، قد انتهى إلى أن الأسباب التي تقف وراء هذا النوع من الإدمان لا تزال غير واضحة.

أسباب الاستخدام المفرط

وربما يكون السبب في هذه المداومة على متابعة تلك المواقع لدرجة الإدمان، يرجع إلى الشعور بالخوف من إفلات حدثٍ ما دون معرفته، وهو نفس الخوف الذي يحدث عند استخدام الهاتف الذكي، فبعض الأشخاص لا يشعر بالارتياح إلا بوجود الهاتف الذكي في يده.

وقد يعني ذلك أن معرفة أسباب إدمان وسائل التواصل الاجتماعي لازالت بعيدة عن التشخيص، حتى إن عالمة نفس متخصصة في دراسة وسائل الإعلام الاجتماعي بجامعة أوكسفورد، أمي أوربن، تذكر أنها إلى الآن تتحفظ على اعتبار الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي نوعًا من أنواع الإدمان.

وتوضح مرجعية هذه التحفظات بأن الدلائل على أن الاعتكاف على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي له تأثيرات سلبية أو إيجابية قليلة جدا، بشكل يصعب معه إصدار تأكيدات، ولذلك فعلينا ألا نبالغ بوصف هذه السلوكيات بأنها “مرضية”.

وأيًّا كان الأمر في اعتبار أن الاعتكاف على وسائل التواصل الاجتماعي سيتم اعتباره نوعا من أنواع الإدمان أم لا، فإن ما لا يُختلف عليه هو ظهور العديد من السلبيات لهذا الأسلوب من الاستخدام، وتقول العديد من الأبحاث إن استخدام تلك الوسائل لأكثر من ساعتين في اليوم بالنسبة للبالغين، فيرجح أن تحدث تراجعات في الصحة العقلية لديهم.

ورغم تصنيف موقع مثل “إنستجرام” كأسوأ منصة إعلام اجتماعي تأثيرًا على الصحة العقلية للبالغين، من خلال دراسة أجريت في بريطانيا مؤخرًا، فإن إقبالا متزايدًا في عدد مستخدميها على مستوى العالم، لتزيد أعدادهم عن 800 مليون مستخدم، وربما يعود السبب في ذلك التصنيف إلى أن وفرة الصور  المتاحة عليه كان الأصل في الهدف منها هو التحفيز، ولكن فعليًّا ما يحدث هو العكس؛ فقد يشعر مستخدموه بأنهم يعيشون حياة  أسوأ  من أقرانهم.

ولذلك ربطت العديد من الأبحاث بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وبين الاكتئاب، إلا أن أبحاثا مضادة قد نشرت لتنفي نتائج هذه الأبحاث بنتائج مضادة، لتقول بأن استخدامها ليس سلبيًّا على طول الخط، فقد أكدت إحدى الدراسات التي نشرت عام 2017، أن الأوقات التي تمر في متابعة تلك الوسائل -ولكن بحدود معينة بالطبع- يرتبط بارتفاع مستوى الشعور بالسعادة، ولكن زيادة أوقات استخدامها ترتبط بحد أدنى من تلك السعادة.

وقال المختصون في هذا البحث، إن استخدام هذه الوسائل الاجتماعية بشكل معتدل ليس ضارا بالضرورة، وإنما قد يكون مفيدا في هذا العالم الذي تتوفر فيه وسائل الاتصال السهل.

علامات تحذيرية

وصرح أندرو بريزبلسكي، الباحث بجامعة أكسفورد، أن الحياة تختلف في ذلك البيت الذي لا يتوفر فيه أحد الأجهزة الإلكترونية لمتابعة وسائل الاتصال الاجتماعي، حتى إن الأطفال في مثل هذا البيت سيختلفون اختلافا جوهريا بعد أن باتت الأجهزة الإلكترونية جزءًا من حياة الأطفال، ولكن في حدود الاستخدام المعتدل، أما إذا وصل وقت الاستخدام إلى أكثر من خمس ساعات في اليوم، فحينها يكون الانتقال إلى منطقة الحدود الضارة للاستخدام.

وربما يكون الحل في حالة استخدام الأجهزة الإلكترونية بشكل مثير للإزعاج  أو قضاء وقتا طويلا على شبكة الإنترنت في استخدام علامات تحذيرية تظهر فجأة على الشاشة للإشارة إلى أن المزيد من المتابعة سيدخل في المرحلة الضارة.

وقد لجأت لهذه الإشارات التحذيرية الآن، مواقع القمار على الإنترنت، مثلما قال جريفيث، والذي أوضح أنها أظهرت نتائج ايجابية واضحة.

ويقول: “هذه العلامات تم تصميمها للشركات، بشكل يجعلها بعيدة عن إصدار الأوامر للمستخدمين، كل ما هنالك، أنها تظهر معلومات للمعيارية التي تجعل الأشخاص يقارنون سلوكهم بالآخرين، ومن ذلك مثلا، الإشارة التحذيرية “لقد أكثرت جدا من الرهان، فالمعدل المعتاد للأشخاص العاديين هو 10 مرات فقط، وبذلك لا يصدر حكم بأن هذا جيد أو سيئ”.

وهذا الأسلوب قد يشجع المستخدمين على تقييم أدائهم، ووضع تحذيرات مشابهة لتحجيم استخدامهم لمواقع التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال الشركات القائمة على هذه المواقع التي بات بإمكانها مساعدة المستخدمين على أن يحددوا ما إذا كانوا تخطوا الحدود الآمنة مقارنة بالآخرين.

ولكن إلى أن يحدث ذلك، فلابد من الانتباه إلى الاستخدام المعتدل وعدم استهلاك المزيد من الأوقات لمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي، والأفضل بالتأكيد هو اتباع سياسة الاعتدال.