العدسة – ربى الطاهر

هناك الكثير من الأوضاع الاجتماعية التي نشأت مؤخرا بفعل تغيير أنماط الحياة عما سبق، كان لها دور أساسي في دخول الإنسان في مشاكل نفسية لا حصر لها، ومن هذه الظواهر التي شاعت في كثير من المجتمعات حديثا، هي ظاهرة “الوحدة”، التي شغلت الحكومة البريطانية حتى أصدرت قرارًا بتعيين وزيرة جديدة مهمتها هو التنسيق مع الوزارات الأخرى لمواجهة هذه المشكلة.

وربما ينظر بعض الشرقيين إلى مثل هذه الخطوة -التي اتخذتها الحكومة البريطانية لتعالج آفة الوحدة التي أصبحت تهيمن على المجتمع البريطاني- بنظرة من التهكم، واعتبارها من أنواع الرفاهية التي ينعم بها الغربيون، ولكن فعليًّا فالأمر ليس كذلك، فمن عايش هذه المشاعر، سواء كان شرقيًّا أو غربيًّا، ربما يقدر خطورة هذه المشكلة، ويقدر تلك الخطوة لحكومة تهتم بنفسية أفراد شعبها، وتقديرها للعواقب التي قد تنبني على مثل هذه الأزمة.

ورغم  تلك النظرة التي لا تستهين بتلك المشكلة التي قد تفضي إلى الاكتئاب والتعاسة، فإن الكثير من الأقاويل الخاطئة -وربما الخرافات- تحيط بها، وربما الخلط بينها وبين أزمات نفسية أخرى، ومن ذلك أن يقال إن الانعزال عن الناس هو السبب في الشعور بالوحدة.

ولكن بالتأكيد فإن هناك فرقًا بين كليهما؛ فالوحدة لا تعني بالضرورة أنك لا تختلط بالآخرين، وإنما هي الشعور بانعدام التواصل مع الآخرين، أو بمعنًى آخر هي الشعور بأن من حولك لا يستطيعون أن يفهموك، أو أنك لا تجد وسط المحيطين بك من تشعر معه بأنك قادر على تكوين علاقة صداقة معه تلبي احتياجاتك النفسية، من التفكير بشكل متشابه، والتفاهم والتوافق في النظرة إلى الأمور.

بينما العزلة قد تكون من وسط العديد من العوامل التي تؤدي إلى الوحدة، ولكنها ليست السبب الوحيد في ذلك، وربما تكون العزلة اختيارية؛ فالبعض قد يشعر بارتياح أكثر عندما يختلي بنفسه بعض الوقت، وربما كذلك لا تشعر بالوحدة وأنت في عزلة، فقد تجد من بين المحيطين بك من يستطيع تفهمك، حتى وإن كان التواصل عبر الهاتف، أو حتى إن كان لا يحدث إلا على فترات بعيدة، ولكنك قد تشعر بالوحدة، رغم وجود زحام من الآخرين حولك.

حتى إن استطلاعًا للرأي قد نشرته “بي بي سي” عام 2016، أسفر عن أن أكثر الأنشطة التي تبعث الشعور بالراحة هي تلك الأنشطة التي ينفرد فيها الناس عند ممارستها بأنفسهم، مثل القراءة، واحتلت هذه النتائج المستويات الخمس الأولى لتلك الأنشطة، ومن أفراد مختلفين بوجهات نظرهم.

ورغم أن العزلة قد تكون اختيارًا، ولكن إذا كان هذا الخيار مفروضًا علينا لعدم مقدرتنا على الشعور بالتواصل مع من يفهموننا، فهنا تصبح العزلة وحدة وتسيطر مشاعرها السلبية.

هل أعداد المنعزلين اجتماعيا في ازدياد

قد يكون الاهتمام بالوحدة قد أخذ مؤخرًا منحى جديدًا من الاهتمام، ولكن الدراسات أشارت إلى أن هذا لا يعني أن من سبقونا لم يعانوا من نفس المشكلة وأنها ازدادت مع الوقت، ولكن ربما ما أعطى هذا الانطباع بزيادة حجم المشكلة، هو زيادة عدد السكان، وليس زيادة في نسبة من يعانون منها عما كانوا في الماضي.

فقد بينت “كريستينا فيكتور” من جامعة بورنيل، من خلال العودة إلى دراسات تعود إلى عام 1948، أن نسبة الأشخاص الذين يعانون من الوحدة المزمنة في كبار السن ثابتة منذ 70 عامًا، والتي أثبتت الدراسات أنها تتراوح ما بين 6 و13 %، سواء كان ذلك لفترة زمنية قصيرة أو الشعور بالوحدة لوقت طويل.

المنحة التي تحتويها محنة الوحدة

وربما لقسوة التأثيرات التي تتركها الوحدة على النفس البشرية، قد لا يظن أحد أن هذه المحنة قد تأتى بأي عوائد إيجابية، ولكن دائما ما تحتوي كل محنة على منحة، كل ما عليك هو التأمل فيما قد ألم بك، ومحاولة النظر إلى الجوانب الإيجابية، فقد تكون قسوة الإحساس بها دافعًا قويًّا للبحث عن أصدقاء جدد، أو لمحاولة إعادة النظر في علاقاتنا بالأشخاص المحيطين بنا.

وهو ما أكده جون كاسيو بو،عالم الأعصاب الاجتماعي، الذي يرى أن شعور الإنسان بالوحدة ما هو إلا دافع لكي يطور أداءه في الحفاظ على علاقته بالآخرين، وضرب مثالا لذلك بالشخص الذي يشعر بالعطش، فإنه سيبحث عن الماء ليروي عطشه، وكذلك الإنسان الذي يشعر بالوحدة سيبحث عن المقربين ليعيد علاقاته بهم.

ومنذ القدم والإنسان يبحث عن الحياة وسط جماعات، حتى يشعر بالأمان من المخاطر التي قد تواجهه وحده، ومع الوقت تطور الأمر ليساعدنا هذا التواصل مع الآخرين على البقاء.

ولكن الخطر إذا لم يتمكن الإنسان من تجاوز الشعور بالوحدة، أو لم يتمكن من تطوير أدائه مع المحيطين، فهنا لن يكون الأمر عابرًا، وستصبح الوحدة مزمنة، وتمتد إلى أبعد من مجرد مشاعر سلبية إلى التأثير على الصحة والنوم وتخلف شعورًا دائمًا بالحزن، وقد تدفع كذلك إلى المزيد من الانطواء، وتفضيل عدم المشاركة في أي مناسبة اجتماعية أو أي نشاط جماعي، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى ظهور الاكتئاب بعد الانعزال لمدة سنة واحدة.

الشعور بالوحدة وعلاقته بالصحة البدنية

ويعتبر أخطر تأثير للوحدة هو ذلك الذي يمتد إلى الصحة البدنية، فقد تناول العديد من الباحثين تلك الدراسات التي أجريت لاكتشاف مدى تأثير الوحدة على الصحة البدنية، وتوصلوا إلى أن نسبة ارتفاع بعض الأمراض الخطيرة، مثل القلب أو السكتة الدماغية، قد ترتفع إلى الثلث، أما هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم، فقد يتعرضون لأمراض أخرى بنسب أعلى من غيرهم، كارتفاع ضغط الدم، بالإضافة إلى أن متوسط أعمارهم غالبا ما يكون أقل عند المقارنة بغيرهم.

ولكن هناك رأي آخر، يقول إن هذه الدراسات كانت تقوم على عينة من البشر، فلا يمكن الوثوق بأن نتائجها أكيدة، خاصة وأن أشخاص العينة ربما يكونون عرضة لأسباب أخرى قد اتحدت مع عزلتهم فأدت إلى هذه النتائج، وليست الوحدة فقط هي المسؤولة عنها وحدها.

بالإضافة إلى احتمالية العكس، بمعنى أن هؤلاء الأشخاص الذين ينعزلون بإرادتهم يغلب عليهم الحزن فيما بعد، وهو ما يؤدي إلى إصابتهم بالأمراض، أو قد يتعرض بعض الأشخاص إلى الأمراض التي تجعلهم أكثر رغبة في الانزواء والابتعاد عن أعين الآخرين.

وقد ترجح ظواهر الإحصائيات – بأن الحالة الصحية لهؤلاء الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم قد تكون أسوأ من غيرهم- الاعتقاد بأن الشعور بالوحدة أفقدهم الحماس للاعتناء بأنفسهم وبالتالي صحتهم، أي أن الوحدة قد تقود إلى تدهور الحالة الصحية، وقد تصل الحالة الصحية المتدهورة كذلك بالإنسان إلى الانعزال والوحدة فكلاهما يؤدي إلى الآخر.

أكثر المراحل لسيطرة الشعور بالوحدة

ومن حيث المرحلة العمرية التي قد يزيد فيها الشعور بالوحدة، قامت باميلا كوالتر، من جامعة مانشستر، بإجراء مجموعة من الأبحاث تتناول الشعور بالوحدة في مختلف مراحل العمر، وتوصلت إلى أن أكثر المراحل العمرية التي يشعر فيها الإنسان بالوحدة، هي مرحلة البلوغ وليست مرحلة الشيخوخة، كما كان يعتقد.

هذا إلى جانب أن دراسات أخرى قد أثبتت أن ما بين 50 و60 % من المسنين لا يعيشون في عزلة.