العدسة – ربى الطاهر

هناك.. في أكبر دولة في العالم، في تلك البقعة الآسيوية الشاسعة “الصين”، يتفوق عدد الرجال على عدد النساء، إلا أن هذا التفوق ليس عدديًّا فقط، وإنما تتعرض المرأة الصينية لتراجعات قوية وواضحة، فيما كانت تحصل عليه من حقوق، مقارنة بالعقود الماضية، وليس أدلَّ على ذلك من تلك الإحصائيات التي رصدت أن 90% من النساء الصينيات في سن العمل في حقبة زمنية سابقة “أواخر السبعينيات” بالقرن الماضي، كن يشاركن في سوق العمل بكامل قوتهن العددية، أما الآن فقد بات جليًّا هذا التراجع في عدد النساء المشاركات في سوق العمالة الصينية.

وربما ليس التراجع العددي بسوق العمل فقط هو ما تعانيه المرأة الصينية، رغم هذا التحول الاقتصادي الذي تنطلق إليه الصين، وهذا النمو المتسارع، فالتأثيرات على وضع المرأة متعددة، فلم يأت هذا الإصلاح الاقتصادي وتحول هذا البلد إلى الاقتصاد الحر بأى عائد إيجابي على المرأة.

فمنذ العقدين الماضيين، اتجهت الحكومة الصينية إلى مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية، التي كان الهدف من ورائها تعزيز اقتصادها، ولكن خلال هذه الخطوات التي تتخذها لتحسين أوضاعها، لم تلتفت لدفع العجلة الاجتماعية كذلك -وعلى أقل تقدير- الحفاظ على وضع المرأة كما كان، وليس الإنقاص من حقوقها المكتسبة.

خاصة بعد أن كان الرئيس السابق للحزب الشيوعي في الصين، الزعيم ماو تسي تونج،قد رفع شعار “النساء يرفعن نصف السماء”؛ لحث المرأة على المشاركة الاجتماعية وتحمل مسؤولية دفع العجلة التنموية في المجتمع.

ألا أن ما حدث كان عكس ذلك تماما؛ فمع الانطلاق نحو تحقيق الإصلاحات الاقتصادية، أنشئت العديد من الشركات الخاصة في هذا السوق الجديد، وهو الأمر الذي لم يكن في صالح المرأة الصينية، حيث تراجعت أعداد مشاركتها في سوق العمل الجديد بشكل ملفت للانتباه.

وقد رصدت الإحصائيات الرسمية هذا التراجع من خلال الأرقام؛ فبعد أن كان في الماضي نسبة المشاركة النسائية 90%، منذ قرن مضى، فقد وصلت النسبة إلى 44% فقط لمن هن في سن العمل في العام 2010، وقد تعتبر هذه النسبة في بلدان أخرى من البلدان المتقدمة، نسبة مرتفعة لمشاركة المرأة في سوق العمل، ولكن الحقيقة أنه لا مجال للمقارنة هنا؛ حيث إن هذه النسبة تكشف عن تراجع لوضع المرأة الصينية، وليست كدول أخرى كانت النسبة فيها ثابتة أو متحركة ولو بشكل طفيف إلى الافضل.

وعبرت الكاتبة الاجتماعية زانج ليجيا، عن تلك التغيرات الاقتصادية من وجهة نظر ناقدة، من خلال تجربتها الشخصية في كتاب ألفته عن هذا الأمر، تحت عنوان “الاشتراكية عظيمة”.

قالت إن تحول الصين من النظام الاقتصادي المنظم إلى النظام الاقتصادي الحر، كان له تبعات اجتماعية خطيرة، وتغيرات شديدة على العديد من المستويات، فقد يبدو جليًّا هذا التغير في سوق العمل، والذى قد وفر فرصا للعمل، سواء من الرجال أو النساء، وخاصة المتعلمات اللاتي يعشن في المناطق الحضرية، إلا أنه في الوقت ذاته أدى إلى نسب بطالة عالية، حيث أفقد الكثيرين وظائفهم، وترى “ليجيا” أن أكثر من تحمل دفع فاتورة هذا التحول الاقتصادي كانت المرأة، التي تحملت معظم الأعباء، فكانت المرأة -على سبيل المثال- أول من يتم التخلي عنه في العمل، وخاصة في تلك الشركات المملوكة للدولة ذات الأداء المتدني.

وقد كشفت “ليجيا” في كتابها كيف عايشت هذا الأمر، وكيف تمكنت من رصد توابعه من خلال عملها الذي بدأته وهى في سن السادسة عشر من عمرها، وربما أثرت نشأتها في مدينة نانجينج، وهي عاصمة مقاطعة جيانجسو شرقي الصين، من الاتجاه إلى العمل بهذا السن في مصنع حربي لصناعة القذائف والصواريخ، حيث كانت هذه القرية التي تعيش فيها ليجيا تعتبر مركزا سكنيا للعاملين بأحد المصانع المحلية، والذي كان يخضع لإدارة وزارة صناعة الطيران.

وسجلت “ليجيا” مشاهدتها من خلال تلك الوظيفة، حيث كانت تشاهد كيف يتم ظلم المرأة في هذه المصانع، وذكرت أن أصل تعاملاتهم مع النساء العاملات في تلك الوحدة التي كانت تعمل بها، هو أن يتم تسريحهن بمجرد أن يصلن إلى سن الخامسة والأربعين، وتقول “ليجيا” إن هذا الظلم كان بمثابة القانون الصريح الذي يطبق في هذا المصنع.

وتؤكد “ليجيا” أن الانتقال إلى نظام الاقتصاد الحر أعطى الفرصة لتلك الشركات التي نشأت، لاتباع المزيد من تلك الممارسات الظالمة، التي تعني النساء العاملات في الصين، موضحة أنه قبل اتباع هذا النظام الاقتصادي الإصلاحي، كانت هناك مساواة حقيقية بين النساء والرجال في سوق العمل، مثلما دعا لها وطبقها الزعيم الصيني ماوتسي، أما ما يحدث الآن فهو محو النظام السابق وإحلال التمييز بين الرجال والنساء محل ما كان مطبقا في الماضى”.

وتُرجع  “ليجيا”  هذه الانتكاسة في التعاملات مع النساء في سوق العمل، وصعوبة حصولها على وظيفة الآن، إلى أن المرأة أصبحت تطالب بالمزيد من الحقوق، بالإضافة إلى رفض كثير من الشركات تعيين النساء اللاتي من المحتمل أن ينجبن في هذه السن، وربما أيضا يتم فصلها نهائيًّا من العمل إذا كررت تجربة الحمل للمرة الثانية في بعض الأحيان، وكما قد تجبر في أحيان أخرى على كتابة إقرار تؤكد فيه أنها لن تنجب أطفالا لمدة لا تقل عن العشر سنوات القادمة.

ولا يتوقف التمييز بين الرجال والنساء عند هذا الحد فقط، ولكن قد يتعداه كذلك إلى الرواتب، والذي كشفه إحدى الإحصائيات الحديثة التي أوضحت أن المرأة في عموم مدن الصين الآن تحصل على 67% مما يحصل عليه الرجل كراتب شهرى، في حين تقل هذه النسبة في المناطق الريفية، حيث تصل إلى 56 % مما يتقاضاه الرجل.

كما أن هذه الفجوة في الأجور بين الرجل والمرأة، قد تختلف في أسبابها بالنسبة لبلدان أخرى، كما تساهم فيها عدة عوامل متشابكة، ولكن في الصين الأمر يختلف، حيث إن الفرق الوحيد الذي يقف وراء هذا التمييز هو ذلك السن المبكر للتقاعد الإجباري، والذي أيضا لا تتساوى فيه النساء بالرجال، فقد حُدد هذا السن في الوظائف الحكومية بـ 55 عامًا للمرأة، بينما يمتد سن التعاقد عند الرجال إلى 60 سنة.

وكذلك يتضح الأمر بنظرة بسيطة إلى تلك النخبة السياسية في هذا البلد الآسيوي، لتكتشف هذا الفارق الشاسع بين التمثيل النسائي والرجالي كقوة عاملة في هذه المنطقة .

فمثلا، توجد امرأة واحدة فقط ضمن أعضاء الحزب الشيوعي الصيني، من بين 25 عضوا من الرجال أعضاء المكتب السياسي للحزب، في حين لم تضم اللجنة الدائمة للمكتب السياسيي للحزب مطلقا أية امرأة، وتعتبر تلك اللجنة المكونة من 9 أعضاء فقط، هى اللجنة الأكثر قوة في الصين.

أما الحزب نفسه فيضم 204 عضوا من الرجال، ويضم من النساء 10 عضوات فقط، من بين أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني.

ورغم ما تمر به الصين حاليا من مرحلة انتقال سريع نحو النمو الاقتصادي، فإن الاستمرار على نفس السياسة التي تتبعها الآن من تهميش وتمييز ضد المرأة في ظل هذه المفاهيم التقليدية، سيعيق تحقيق أي تقدم فعلي، وسيطيل المسافات قبل الإنجاز خطوة واحدة تعزز من قوة هذا النظام الاقتصادي الضخم.