العدسة – ربى الطاهر
تناولت العديد من الأعمال الدرامية سواء كانت القديمة أو الحديثة، وكذلك العربية والأجنبية تلك الشخصيات التي قد تصاب في المخ مما يعرضها لتغييرات جذرية بالشخصية تفصح عنها الدراما بشكل كوميدى أو مأساوي وغالبًا ما تتناول قصة فقدان الذاكرة الذي يأتي بشخص جديد وغالبا ما تكون الشخصية الجديدة أكثر تعاطفا وإيجابية بل وتعمل على معاونة الآخرين.
وربما يعتقد البعض أن مثل هذه الأحداث بداية من الإصابة ثم هذا التغيير بالشخصية أمر متعلق بالدراما والفانتازيا فقط إلا أن الواقع دائما ما يأتي إلينا بما هو أعتى من ذلك الخيال الدرامي، وربما ما يؤكد ذلك حالة تلك المريضة التى اكتشفت أنها تعاني ورمًا بالمخ وكانت في السبعين من عمرها، وبعد أن أجرت عملية لإزالة هذا الورم تغيرت شخصيتها تماما، وفي ما ذكره زوجها الذى عاش معها ما لا يقل عن 58 عاما تحولت شخصيتها عما كانت عليه طيلة عمرها؛ فقد أصبحت أكثر إقبالا على الحياة وأكثر لطفا مع الآخرين ورغبة في الحديث إليهم بعدما كانت تمتلك شخصية صارمة قبل العملية وكانت عصبية وغاضبة دائما.
ولكن ليست هذه هى الحالة الوحيدة التى رصد المحيطون حولهم تلك التغيرات الإيجابية بعد إصاباتهم في أدق مناطق الجسم فهناك العديد من الأدلة والأمثلة على ذلك أو على الأقل بنسبة قليلة بين المصابين ولكنها موجودة وتحدث بالفعل وهو ما سيغير بالتالى وجهات النظر حول كل ما يتعلق بإصابات المخ وفيما يتعلق بتأثيرها على الشخصية.
ولكن برغم أن هناك حالات عدة أكدت حقيقة أن إصابات المخ قد تعكس تغيرات إيجابية بالشخصية منذ فترة زمنية بعيدة إلا أن الأعمال الأدبية تلجأ دائما لتناول الجانب السلبي على الشخصية وربما توضح القصة الشهيرة لفينياس غيج ذلك النموذج السلبي حيث يتعرض عامل بالسكك الحديدية إلى حادث مروع حيث يدخل في الجزء الأمامى من رأسة قضيب حديدي وتدور أحداث القصة في القرن التاسع عشر ويتحول هذا الشخص الذي كان يتسم بالذكاء والبراعة إلى شخص مختلف تماما بعد تعرضه لهذا الحادث ويصبح شخصا عدوانيا ومتهورا حتى إن اصدقاءه لم يعودوا يتقربون منه، ووصفه أحدهم بأنه “لم يعد غيج”، وربما أضافت إليه بعض الإيجابيات في الروايات الحديثة التى أعطته مساحة لتجاوز هذه الحادثة لكي يبدأ حياة جديدة كسائق لعربة حصان )
وليست قصة غيج هي المثال الوحيد في ذلك الأمر فقد ركنت كثير من الروايات الحديثة إلى أن إصابات الرأس تؤدى دائما الى سلوكيات سلبية وتعرض نماذج لمرضى يعانون من تلف بالرأس فيظهرون سلوكيات تشبه سلوكيات المرضى النفسيين أو المضطربين اجتماعيا.
وقد أفصح فريق طبي بقيادة عالمة النفس مارسي كنغ في جامعة ولاية آيوا من خلال دراسة حديثة نشرت في مجلة “نيوروسيكولوجيا” أن عدد الحالات التى تحولت إلى شخصيات أكثر إيجابية بعد تعرضها لإصابات بالرأس كانت أكثر من تلك الحالات قد تحولت لشخصيات سلبية ووفقا للدراسة فإن هناك 22 شخصا أظهروا تحسنا وتغيرا إيجابيا بعد إصابتهم من بين 97 مريضا تعرضوا لتلف بجزء معين في الرأس بينما ظهرت تحولات سلبية على 54 من هؤلاء الشخصيات بينما لم يتأثر سلبا أو إيجابا الأفراد المتبقون من الدراسة .واعتمدت هذه النتائج على ملاحظات من الأشخاص المقربين الذين خضعوا بدورهم لاختبارات أو لنماذج من الأسئلة لتقييم هؤلاء المصابين في 26 سؤالا شمل جوانب الشخصية للمريض سواء قبل العملية أو بعدها.
كما عكفت بعض الدراسات على بحث كيف يمكن للتلف الذي يحدث بالرأس أن يكون في مناطق بعينها وبالتالي يؤثر ثأثيرا إيجابيا في بعض الأحيان وكان من ذلك تلك الدراسة التى تناولت بالبحث المحاربين القدامى في فيتنام حيث كان بعضهم قد تعرض لبعض إصابات الرأس وبعض منهم كانت إصابته في مناطق يرجح أن لها علاقة في الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة – تلك المناطق الخاصة بالعاطفة وصنع القرار- ووجدت تلك الأبحاث أن هؤلاء الأشخاص كانوا أبعد من أن يصابوا باضطراب ما بعد الصدمة، وفي دراسة أخرى تناولت نفس البحث وُجد أن بعض المرضى الذين يعانون بالفعل من تلف في إحدى مناطق الرأس تختص بالعواطف كانوا أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب.
إلا أن الاكتشاف الجديد الذى توصلت إليه الدراسة التي نحن بصدد عرضها هي أول دراسة توثق التغيرات الإيجابية في الشخصية على نطاق واسع حيث شملت مجموعة كبيرة من المرضى.
وأوردت على ذلك مثالا آخر لذلك الشاب الذى اضطر إلى إجراء جراحة بالرأس وهو في الثالثة والثلاثين من عمره حيث كان يعاني من تمدد الأوعية الدموية في الرأس ووصف هو نفسه وكذلك زوجته أي مدى كان يتصف بالعصبية وحِدّة الطباع والكآبة وسرعة الغضب ولكنه تحول إلى إنسان آخر بعد العملية وأصبح على النقيض تماما مما كان عليه فقد أصبح أكثر إيجابية وأكثر شعورا بالراحة ويتحدث إلى الآخرين ويسرد النكات ولم تعد تظهر عليه أي علامات كآبة فهو دائما يضحك.
فهل يمكن أن يكون تلف بعض من خلايا الرأس له هذا التأثير الإيجابي؟ أم أنه يتعلق بأمور أخرى؟ يبدو من خلال الحلات التى أوردتها الدراسة أن هذا التحسن في شخصية المريض لا علاقة له بالسن أو بالجنس أو حتى بدرجة الذكاء والدرجة العلمية ، ولكن ما يظن أنه مرتبط بهذا التغيير هو الإصابة بنوع محدد من تلف الرأس، بالإضافة إلى مواصفات الشخصية وتاريخها في الاتصاف ببعض الطباع الصعبة كالحدة والعصبية وما إلى ذلك من الطباع السلبية.
وكشفت كنغ وزملاؤها من خلال مسح أجرته على رؤوس المرضى أن هؤلاء الأشخاص الذين ظهرت عليهم سلوكيات إيجابية في تغيير طباعهم الشخصية كانوا عرضة أكثر من غيرهم لتلف تلك المنطقة الأمامية ثنائية القطب من المخ، وهي تلك المنطقة التى تتعلق بتقبل وجهات نظر الآخرين وصنع القرار.
ولكن لا يعني هذا التغير الإيجابي في الشخصية لبعض المرضى تجاهل خطورة إصابات الرأس فهذه الإصابات من المشهور عنها أنها من النادر التعافي التام منها في حالة الإصابات الشديدة في الرأس، حتى وإن كان المريض يبدو طبيعيا فإنه قد يتعرض طوال الوقت لبعض المشاكل الخفية مثال صعوبة التعلم لمعلومات جديدة، كما أن هذه الإصابات قد تتسبب في أن يواجه المريض احتمالات الإصابة بأمراض أخرى مثل الخرف.
وقد يبدو بشكل بديهي أن لا علاقة للإصابة بتلف المخ بأي تحسن في سلوكيات المريض وطباعه الشخصية، ولكن في نفس الوقت قد لا يكون ذلك بعيدا كل البعد عن التصديق إذا التفتنا إلى أن اللجوء إلى الجراحة بالرأس قد يكون الحل الوحيد لعلاج بعض الأمراض النفسية مثل مرض اضطراب الوسواس القهري.
ولابد من التأكيد على أن إصابات الرأس حتى أبسطها مثل الارتجاج الخفيف يجب أن تعامل بقدر من الجدية، حتى وإن كانت من تلك الحالات النادرة التى قد يحدث فيها تحسن إيجابي على مستوى الطباع الشخصية.
وعلى الرغم من أن هذا التغيير الإيجابي بعد جراحات الرأس أمر يلقى القبول إلا أنه في نفس الوقت قد يواجه المحيطون من الأصدقاء والأقارب وحتى المريض نفسه مشكلة في التكيف مع هذه التحولات الجديدة، حتى وإن كانت إيجابية، كما أن هذا التغير يؤكد أن تأثيرات إصابات الرأس أمر أكثر تعقيدا مما قد يعتقد الكثيرون.
اضف تعليقا