نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريرًا مطولًا حول تجاهل الفيفا فضائح وانتهاكات حقوق الإنسان في السعودية رغم كافة التقارير التي توثق ذلك، وبدلًا من إجراء تحقيق شاف وحيادي، يستند الاتحاد الدولي لكرة القدم إلى تقارير باطلة ومتحيزة هدفها تلميع صورة المملكة الخليجية وطمس الحقائق التي تبين أن هذه النهضة المزعومة تُبنى على أرواح آلاف العمال المهاجرين.

التقرير يتناول انتقادات من قبل 11 منظمة حقوقية لشركة المحاماة العالمية كليفورد تشانس بسبب تقرير أعدته بالشراكة مع فرعها في السعودية لدعم ملف السعودية لاستضافة كأس العالم 2034، حيث أكدت المنظمات في تقريرها أن تقرير شركة المحاماة قدم صورة غير دقيقة عن سجل السعودية في حقوق الإنسان، إذ استبعد قضايا رئيسية كحرية التعبير والتجمع والنقابات العمالية وحقوق المرأة، بحجة أن السعودية لم تصدق على معاهدات دولية معينة أو لأنها لم تعترف بها كجزء من التقييم.

وأشار التقرير الذي أعدته المنظمات الحقوقية بما فيها هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية ومنظمات سعودية إلى أن الحكومة السعودية تدخلت بشكل مباشر في مسودة التقرير الصادر عن كليفورد تشانس، مما يثير شكوكاً حول حيادية التقرير واستقلاليته.

كما تم تسليط الضوء على الانتقادات العديدة التي وُجهت للفيفا لعدم التزامها بسياسة حقوق الإنسان الخاصة بها والتي تقتضي تضمين جميع حقوق الإنسان المعترف بها دولياً، ومع ذلك لم تبد أي تحفظات على ما جاء الحجج التي قدمها تقرير كليفورد تشانس، ما اعتبرته المنظمات تراجعاً عن معايير الفيفا السابقة.

وبالمقارنة مع تقرير سابق لكليفورد تشانس بشأن بطولة 2026 في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، أشارت المنظمات إلى التناقض بين موقف الشركة من الالتزام بحقوق الإنسان مع تلك البلدان والسعودية، ما أثار تساؤلات حول التزام الشركة بالقيم المعلنة، والمنظمات ترى كذلك أن هذا التقرير سيُمكّن السعودية من الحصول على استضافة البطولة، والتي يخشون أن تتسبب في “تأثيرات خطيرة” على حقوق الإنسان.

يطرح الجدل حول تقرير كليفورد تشانس عدة قضايا حرجة تتعلق بالمسؤولية الأخلاقية للشركات العالمية والممارسات الحقوقية في الأحداث الرياضية الدولية. مع سعي السعودية لاستضافة كأس العالم 2034، وقد أثار هذا التقرير تساؤلات حول استقلالية الشركات الدولية عندما تتعامل مع أنظمة لديها سجل متدهور في حقوق الإنسان.

أولاً، يبدو أن كليفورد تشانس قد وضعت نفسها في موقف صعب، إذ يُظهر تقريرها استبعادًا متعمدًا لعدد من القضايا الأساسية في مجال حقوق الإنسان كما أسلفنا سابقًًا، مثل حرية التعبير وحقوق المرأة والقيود على النقابات، وهي قضايا لا يمكن التغاضي عنها عند الحديث عن حقوق الإنسان عالميًا. بينما تدافع الشركة عن حياديتها بأن نطاق التقييم قد حدد وفقًا لتوجيهات الاتحاد السعودي لكرة القدم وبالتنسيق مع الفيفا، فإن هذا التنسيق يثير تساؤلات عميقة حول مدى احترام الشركة لمعايير الشفافية والنزاهة المطلوبة لمثل هذا التقييم، والتي ينبغي أن تستند إلى المعايير الدولية بغض النظر عن سياسات الدول المعنية.

ثانيًا، يشير العديد من النقاد إلى أن الفيفا تتحمل جزءًا من المسؤولية؛ إذ تتطلب سياسة حقوق الإنسان الخاصة بالفيفا، التي اعتمدت في عام 2017، الالتزام بالمعايير الحقوقية الدولية كشرط للدول الراغبة في استضافة البطولات. ومع ذلك، يظهر في الواقع أن الفيفا قد تخلت عن هذا المعيار في عملية اختيار المضيف لبطولة 2034، مما يشير إلى احتمال تضاؤل اهتمام الفيفا بتعزيز قيم حقوق الإنسان، وهو ما يتناقض مع وعودها العلنية السابقة.

وهنا يبرز مفهوم “الغسيل الرياضي” أو sportswashing، حيث تسعى بعض الدول، التي تمتلك سجلاً سيئًا في حقوق الإنسان، من خلال هذه السياسة إلى تحسين صورتها العالمية عبر استضافة الفعاليات الرياضية الكبرى. فالسعودية، التي تواجه انتقادات حادة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، تسعى جاهدة لاستخدام هذه البطولات كمنصة عالمية لتعزيز صورتها الإيجابية، الأمر الذي يراه كثيرون خطوة لتلميع سمعتها بدلاً من تحقيق تقدم حقيقي في مجال الحقوق.

من ناحية أخرى، يعكس هذا الموقف تحديًا حقيقيًا للمؤسسات الدولية؛ إذ يتوجب عليها الموازنة بين القيم الإنسانية والمصالح التجارية، فتقديم الخدمات القانونية لدول مثل السعودية قد يوفر عوائد مالية ضخمة للشركات العالمية، لكنه يأتي على حساب القيم والمبادئ التي تعلن هذه الشركات التزامها بها. وحينما تُعتبر كليفورد تشانس من بين الشركات الرائدة في مجال حقوق الإنسان، فإن التنازلات التي قدمتها قد تضر بسمعتها وتضعها في موقف محرج أمام الجمهور والمنظمات الحقوقية.

أخيرًا، فإن الاستجابة الضعيفة لكليفورد تشانس على الرسالة التي وجهتها المنظمات الحقوقية – والتي اقتصرت على الإشارة إلى أن التعليق خارج نطاق التقرير سيكون “غير ملائم” – تعكس عدم استعداد الشركة لمواجهة الانتقادات بشكل مباشر. في هذا السياق، فإن المطالبة بالشفافية من قبل الفيفا وكليفورد تشانس بشأن دوافع هذا التقرير والتوضيح عن مدى تدخل السعودية في عملية التقييم، هو مطلب مشروع من جانب المنظمات الحقوقية، وهو بمثابة دعوة للتفكير في آليات المساءلة التي يمكن اعتمادها لمراقبة امتثال الشركات الكبرى لمعايير حقوق الإنسان عند تقديم خدماتها لدول ذات سمعة حقوقية مشبوهة.

خلاصة القول، يعكس هذا الجدال معضلة جوهرية في الساحة الدولية، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية مع القيم الحقوقية، إذ يُتوقع من المؤسسات العالمية، وخصوصًا تلك التي تتعامل مع أحداث كبرى مثل كأس العالم، أن تلتزم بمبادئ حقوق الإنسان بشكل جدي وبدون استثناءات، وإلا فقد تصبح هذه البطولات واجهة لتبييض سمعة دول ترفض إصلاح سجلها الحقوقي.