عندما يصطف أفضل لاعبي كرة القدم في العالم لكأس العالم في عام 2034، فمن المرجح أن تظهر مهاراتهم المذهلة في ملعب أرامكو في الخبر، وهي مدينة تقع على الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية، هذا الملعب واحد من 15 ملعبًا مقترحًا في محاولة السعودية لاستضافة البطولة، جار بنائه حاليًا بالفعل على قدم وساق. تُظهر صور المكان المكتمل الذي يتسع لـ 47000 مقعدًا ألواحه الأنيقة المتداخلة المتوهجة باللون الذهبي في غروب الشمس، لكن الحقيقة على أرض الواقع مختلفة.
في تحقيق استقصائي استمر جمع مادته لعدة أشهر، اتضح أن التكلفة البشرية لمحاولة المملكة الخليجية الجريئة لترك بصمتها على اللعبة العالمية عالية للغاية، وراء لافتات الموقع، التي تزينها شعارات متفائلة حول الترابط العائلي والمجتمعي، يعيش مئات العمال المهاجرين على الجانب الآخر من حلم كأس العالم السعودي في مأساة متناهية لا يصدقها عقل.
بحسب التحقيق، يكافح العمال في نوبات عمل مدتها 10 ساعات في حرارة شديدة تصل لـ 45 وربما أكثر، ويرفعون قضبان الفولاذ إلى أماكنها، ويقيمون أبراج السقالات ويدقون معًا إطارات الأعمدة الخرسانية العملاقة التي ستحمل الملعب، ويقول بعض العمال ـ الذين يأتون في الغالب من بنغلاديش ـ إنهم يكسبون أقل من جنيهين إسترلينيين في الساعة.
إن قضبان المعدن الثقيلة التي يحملونها عبر الموقع ليست الشيء الوحيد الذي يثقل كاهلهم، فهم يحملون ديوناً ضخمة من الرسوم التي اضطروا إلى دفعها لوكلاء مارقين للحصول على وظائفهم في المملكة العربية السعودية… يقول أحدهم وهو يصف المدة التي قد يستغرقها سداد دينه: “نعمل بلا مقابل لمدة عامين”.
يقول بعض العمال إن أصحاب العمل يحتجزون أجور أول شهرين أو ثلاثة أشهر، الأمر الذي يجعلهم في واقع الأمر محاصرين، فيما يقول أحد العمال الذي يعمل في الاستاد منذ أربعة أشهر، ولكنه لم يتلق سوى راتب شهر واحد: “ليس من السهل أن أترك هذه الوظيفة لأنهم يحجزون على راتبي… ولست متأكداً ما إذا كنت سأحصل على أجري كاملاً”.
وخلال الصيف، استمر العمل في الاستاد في ورديتين على مدار الساعة ـ باستثناء فترة توقف قصيرة في منتصف النهار ـ على الرغم من الحرارة والرطوبة الشديدتين، والتي تجاوزت في كثير من الأحيان 45 درجة… يقول عامل آخر: “يجب علينا أن نتحمل ذلك… نحن غارقون في العرق، ونضطر إلى عصر ملابسنا مرتين أو ثلاث مرات في كل نوبة عمل”.
وفي نهاية كل نوبة عمل، يتم نقلهم إلى ركن مهجور من المدينة، حيث يعودون إلى غرف قذرة، وسلالم ممتلئة بالقمامة وأكوام من أحذية العمل المغطاة بالغبار. ويخلعون ملابسهم المبللة بالعرق وينهارون على مراتب رقيقة على الأرض أو على أسرة بطابقين؛ خمسة أو ستة رجال محشورون في مساحات ضيقة، مثل زنازين السجن، والملابس معلقة على حبال معلقة عبر الجدران، وأواني الطبخ والمتعلقات الشخصية محشورة تحت الأسرة، كما يتم إعداد الوجبات على الأرض وطهيها في مطابخ قذرة، ملطخة بأوساخ سنوات.
إنها صورة لا يريد النظام السعودي وشركاؤه في الفيفا أن يراها العالم؛ حيث يأتي الرجال من بعض أفقر أركان العالم للهروب من الفقر فقط ليجدوا أنفسهم محاصرين في قبضة الديون والأجور المنخفضة والأجور غير المدفوعة.
ومع ذلك، في غضون أسابيع، من المقرر أن يمنح الاتحاد الدولي لكرة القدم حق استضافة كأس العالم 2034 للمملكة العربية السعودية، صاحبة العرض الوحيد لاستضافة البطولة.
تم إرسال تقرير مفصل حول هذه الانتهاكات إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم وسُئل عن الخطوات التي سيتخذها لضمان حماية حقوق العمال، لكنه رفض التعليق، مستشهدًا بالتقييم الجاري للعروض المقدمة لاستضافة كأس العالم 2030 و2034.
قال كريم زيدان، زميل في مؤسسة حقوق الإنسان، وهي منظمة وثقت معاملة المملكة العربية السعودية للعمال المهاجرين لسنوات، إن النتائج “مقلقة للغاية، ولكنها ليست مفاجئة”. وأضاف زيدان: “منح حقوق استضافة الأحداث العالمية المرموقة للأنظمة الاستبدادية دون محاسبتها على حقوق الإنسان لا يؤدي إلا إلى تشجيعها على تحدي التزاماتها بموجب القانون الدولي”.
إن العمال في الملعب يعملون لدى عدد من الشركات المختلفة والمقاولين من الباطن، وبموجب شروط مختلفة لا تتوافق مع شروط حقوق الإنسان العالمية، كما إن أغلب الذين تمت مقابلتهم هم من العمال المستقلين، الذين يتم توظيفهم من قبل شركات توريد العمالة من جهات خارجية، وهي ممارسة شائعة في الخليج. يقولون إنهم لا يملكون عقوداً، ولا كشوف رواتب، وأنهم لا يتمتعون بأمن وظيفي يذكر. والوثيقة الوحيدة هي جدول زمني يسجل الساعات التي عملوا فيها، ويقولون إن الأجور تُدفع نقداً مقابل بصمة الإبهام. ويجب عليهم شراء التأمين الخاص بهم، وإيجاد غرف خاصة بهم، وتسليم ما يعادل أجر أسبوع واحد كل شهر إلى رعاتهم السعوديين لدفع ثمن تصريح إقامتهم.
فيما يقرب من 20 مقابلة، أعرب هؤلاء العمال عن شعور عميق بالعجز والاستسلام، وهم محاصرون بين الفقر في بنغلاديش والاستغلال في المملكة العربية السعودية. وحتى الأجور الضئيلة التي يكسبونها من بناء الملعب أكثر مما يمكنهم كسبه في وطنهم، ولهذا السبب فهم يواصلون العمل، ولا يجرؤون على التحدث. “لن أحصل على أي مساعدة إذا تقدمت بشكوى للشركة. وسوف يهددونني بطردي. هناك الكثير من العمال العاطلين عن العمل هنا. ويمكن استبدالي بسهولة”، كما يقول أحدهم.
يشكل العمال الأجانب بالفعل أكثر من ثلاثة أرباع القوة العاملة في القطاع الخاص السعودي، ولكن من المتوقع أن ترتفع هذه الأرقام مع زيادة الطلب على العمالة الرخيصة، القادمة من أماكن مثل باكستان ونيبال وبنغلادش بشكل خاص. ويعمل هؤلاء العمال المهاجرون ذوو الأجور المنخفضة في بناء البنية الأساسية، ولكنهم يخدمون أيضًا في المطاعم، ويحرسون الفنادق، ويكنسون الشوارع ويقودون سيارات الأجرة. وبدونهم لما كانت كأس العالم لتقام.
إن الظروف المسيئة التي يعاني منها العمال في الملعب موجودة في جميع أنحاء الخبر، وسوف تؤثر على مشجعي كرة القدم الزائرين أينما ذهبوا. إن عرض السعودية لاستضافة كأس العالم يروج للمدينة كوجهة سياحية لا يمكن تفويتها مع “واجهة بحرية نابضة بالحياة ومعاصرة”. لكن الحقيقة مختلفة. يقول أحد العمال، اسمه صادق. إنه يقضي حوالي 12 ساعة كل يوم في التجول ذهابًا وإيابًا في ممشى الأشجار المبطنة به لتنظيف القمامة مقابل 650 ريالًا فقط (130 جنيهًا إسترلينيًا) في الشهر، وهذا يعادل حوالي 40 بنسًا في الساعة. وبصرف النظر عن رحلتين إلى بنغلاديش، يقول إنه لم يحصل على يوم عطلة واحد منذ عشر سنوات، حيث قال “والدتي مريضة للغاية ولدي طفلان لتعليمهما… إذا تركت هذا العمل، فسوف أصبح عاطلاً عن العمل، لذا لا يوجد سبيل آخر”.
ويبدو أن بعض السكان المحليين يشعرون بهذا الظلم، ويقدمون لصادق وزملائه بين الحين والآخر إكرامية صغيرة أو زجاجة من الماء البارد، ولكن المشاكل التي تواجه العديد من العمال المهاجرين شديدة ومتجذرة، ولا يمكن لأي قدر من الصدقات أن يخفف عنهم.
لقد اتخذت السلطات السعودية بعض الخطوات المحدودة لتحسين ظروف العمال المهاجرين في السنوات والأشهر الأخيرة، بما في ذلك تفكيك أجزاء من نظام الكفالة الذي لا يستطيع العمال بموجبه ترك وظائفهم دون إذن صاحب العمل.
تتم مصادرة جوازات السفر، ولا يتم دفع الأجور، ويتبين فيما بعد أن عدد كبير من هذه العقود مزورة. ويجد العديد من العمال أنفسهم في نوع من العبودية الحديثة، بعد أن وقعوا في فخ الديون، وغير قادرين على تغيير وظائفهم وخائفين للغاية من الشكوى، فيما يعاني آخرون من مصير أسوأ، إذ يموت البنغاليون في المملكة العربية السعودية بمعدل يزيد على أربعة في اليوم، ومعظم هذه الوفيات لا يمكن معرفة السبب الحقيقي ورائها فعليًا.
يتم تطوير الملعب في الخبر من قبل شركة أرامكو، عملاق النفط المملوك للدولة والشركة الأكثر ربحية في العالم، حيث أصبحت أرامكو مؤخرًا أحدث راعٍ رئيسي للفيفا في صفقة قدر أحد الخبراء أنها قد تبلغ قيمتها 100 مليون دولار على الأقل سنويًا بحلول عام 2034.
الفيفا ليست الوحيدة التي يبدو أنها تستفيد، حيث أنتجت الذراع السعودية لشركة كليفورد تشانس، وهي شركة محاماة عالمية يقع مقرها الرئيسي في لندن، “تقييمًا مستقلاً” لمخاطر حقوق الإنسان المرتبطة باستضافة كأس العالم في المملكة العربية السعودية لدعم عرض البلاد. ووصفت جماعات حقوق الإنسان التقرير بأنه “ضعيف بشكل صادم”، قائلة إنه “يبيض” الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يواجهها كل من المواطنين السعوديين والعمال المهاجرين.
أحد المقاولين الرئيسيين للملعب هو Six Construct، الشركة الفرعية الخليجية لشركة البناء البلجيكية العملاقة BESIX، على الرغم من أن عمال الاستاد الذين تمت مقابلتهم لهذا التحقيق ليسوا موظفين بشكل مباشر من قبل شركة Six Construct، إلا أن مركبة تحمل علاماتها كانت متوقفة بانتظام على الطريق حيث يتم اصطحابهم لنوباتهم، مما يشير إلى أنها على علم بظروف عملهم.
بموجب مبادئ الأمم المتحدة، فإن الشركات ملزمة بحماية جميع العمال، بما في ذلك أولئك الذين يتم توظيفهم من خلال المقاولين من الباطن، ويجب تعويضهم عندما يتم انتهاك حقوقهم الإنسانية.
قال جيمس لينش، المدير المشارك لمنظمة حقوق الإنسان FairSquare، “لا يمكن للمقاولين الرئيسيين في هذا الموقف أن يغسلوا أيديهم من المسؤولية ببساطة… ستكون الاستجابة الانفعالية هي محاولة إبعاد أنفسهم عن هؤلاء العمال من خلال إنهاء المقاولين المعنيين – وهذا من المرجح أن يجعل الأمور أسوأ بالنسبة للرجال المتضررين. “إنهم بحاجة إلى التعامل مع وضع هؤلاء العمال، لضمان حصولهم على علاج للاستغلال الذي عانوا منه”.
إن ملف استضافة كأس العالم السعودي يعد “بتبني نهج قائم على حقوق الإنسان في جميع العقود مع أطراف ثالثة وتنفيذ معايير إلزامية لرعاية العمال”، ولكن النتائج تشير إلى أنها فشلت في الاختبار الأول. وسوف تزيد الضغوط على الفيفا لشرح كيف يمكن للمملكة العربية السعودية أن تمتثل لمعايير حقوق الإنسان التي يتعين على الدول المضيفة الالتزام بها. وحذرت منظمة العفو الدولية من أنه ما لم تتفاوض الفيفا على اتفاقيات ملزمة لحقوق الإنسان قبل اتخاذ القرار النهائي، فإنها ستضمن تقريبًا أن يكون العمل القسري في قلب بطولتها الرئيسية”.
كل ما يهم العمال حاليًا هو النضال من أجل كسب المال، ولكن بعد أربع سنوات من وصول “عبدول” من بنغلاديش، يقول إنه لا يزال مدينًا بنحو نصف مبلغ 4500 جنيه إسترليني الذي اقترضه لدفع ثمن تأشيرة العمل في المملكة العربية السعودية لوكيل التوظيف… هذا المبلغ الضخم أكثر من ضعف ما يكسبه متوسط أسرة في عام واحد في المناطق الريفية في بنغلاديش.
إنه يكسب 13 ريالًا في الساعة (2.65 جنيهًا إسترلينيًا) من عمليه في الاستاد، ولكن بعد دفع ثمن غرفته وطعامه وتأمينه ورسوم تصريح إقامته والقسط الأخير من دينه، لا يتبق له سوى مبلغ زهيد.
بعد أربعة أشهر من بدء العمل في الاستاد، يقول إنه لم يتلق سوى أجر شهر واحد، موضحًا: “أشعر بالسوء حيال ذلك، لكن لا يوجد شيء يمكنني فعله… لا يوجد أحد يمكنني إبلاغه بهذا لأننا لا نملك عقدًا”.
وتابع “أنا على علم ببطولة كأس العالم لكنني لا أشعر بأي حماس بشأنها… علي فقط القيام بالعمل المطلوب مني… لقد اضطررت إلى اقتراض الكثير من المال، وإذا عدت إلى بلدي الآن فسوف يكون هناك عبء ضخم علي. كان من الأفضل لو بقيت في بنغلاديش”.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا