مقال للكاتب الصحفي أوين جونز

 

ما لم يتم محاسبة المتواطئين في الإبادة الجماعية في غزة، فإن أي عدالة للضحايا ستكون بعيدة كل البعد عن أن تتحقق. لقد قدم وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس راحة لأهالي غزة الناجين من الحرب الوحشية التي استمرت أكثر من سنة، مع ذلك، فإن إعلان دونالد ترامب أنه غير واثق من أن هذا الاتفاق سيستمر أدى إلى تجدد المخاوف داخل قلوب هؤلاء. من قرار الرئيس الجديد برفع الإيقاف المؤقت عن شحنات القنابل التي يبلغ وزنها 2000 رطل إلى إسرائيل، والتي تم إسقاطها مرارًا وتكرارًا على المدنيين فيما يسمى بالمناطق الآمنة، إلى اختياره لمنصب السفير الأمريكي في إسرائيل، مايك هاكابي، الذي قال ذات مرة إنه “لا يوجد حقًا شيء اسمه فلسطيني”، فإن أولئك الذين يأملون في السلام الدائم محقون في القلق من أن المذبحة ستبدأ قريبًا مرة أخرى.

إن الهجوم على غزة يعمل على تطبيع العنف اللامحدود ضد المدنيين، وكل ذلك بتسهيل وتبرير من قبل حكومات غربية متعددة ومنافذ إعلامية دولية متحيزة. ما يحدث في غزة يُذكرنا بتدمير مدينة جيرنيكا على يد القوات النازية والإيطالية أثناء الحرب الأهلية الإسبانية قبل ما يقرب من تسعة عقود، فالهجوم الذي تم على جيرنيكا كان واحدًا من أولى عمليات القصف الجوي الجماعي لمجتمع مدني، وأثارت هذه الواقعة فضيحة عالمية. الرئيس الأميركي آنذاك فرانكلين د. روزفلت أعرب عن أسفه على “الطريقة التي يتم بها قتل المدنيين، بما في ذلك أعداد هائلة من النساء والأطفال، بلا رحمة من الجو”. وكتب الصحفي جورج ستير من صحيفة التايمز: “إن الغارة على جيرنيكا، من حيث شكل تنفيذها ومدى الدمار الذي أحدثته، لا مثيل لها في التاريخ العسكري”. ولكن للأسف، تحولت جيرنيكا إلى تجربة تجريبية لإبادة المدن الأوروبية جواً بعد بضع سنوات: فقد قال الزعيم العسكري النازي هيرمان جورينج في محاكمات نورمبرج إن جيرنيكا سمحت للنازيين باختبار سلاحهم الجوي.

ماذا عن غزة؟ في الأسبوع الماضي، زعم جو بايدن أنه أخبر بنيامين نتنياهو، “لا يمكنك قصف هذه المجتمعات المدنية”، في بداية الهجوم العسكري الإسرائيلي في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وعلى ما يبدو فإن الرئيس السابق كان يعتقد أن إخبار العالم بما قاله من شأنه أن يساعد في إعادة تأهيل صورته، مع ذلك ظهر الأمر أشبه باعتراف غير مقصود بالتواطؤ الجنائي. فالولايات المتحدة، بعد كل شيء، سلمت إسرائيل أسلحة بقيمة 18 مليار دولار تقريبًا في العام التالي، عندما علم، أو كان ينبغي له أن يعلم، أن حملة نتنياهو الجوية تنتهك القانون الدولي. وفي الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب، وفقًا لمنظمة إيروارز غير الحكومية، قُتل ما لا يقل عن 5139 مدنيًا. وكان هذا تقديرًا غير دقيق؛ وربما يكون العدد الحقيقي أعلى بكثير، ومن المرجح أن معظم القنابل التي استخدمت في قتل هؤلاء المدنيين تم تزويد إسرائيل بها من قبل الولايات المتحدة.

ما هو الغرض العسكري من هذا؟ يبدو أن الولايات المتحدة ليس لديها إجابة. قال وزير خارجيتها السابق، أنتوني بلينكن، الأسبوع الماضي إن حماس “جندت عددًا من المسلحين الجدد يكاد يكون مساويًا لعدد من فقدتهم”، إن كان هذا صحيحا، فإنه يقوض الهدف المعلن والمبرر لوحشية إسرائيل، والذي كان القضاء على حماس. وكان الهدف الآخر الذي زعمته إسرائيل هو إعادة الرهائن بالوسائل العسكرية، ومع ذلك، وكما قال أحد المحللين في صحيفة إسرائيل اليوم الإسرائيلية مؤخرا، “يمكننا أن نؤكد على وجه اليقين أن الضغط العسكري الإسرائيلي قتل عددا من الرهائن أكبر من عدد الذين أعادهم أحياء”.

الجدير بالذكر أنه تم إطلاق سراح الرهائن خلال وقف إطلاق النار، وليس نتيجة لعمليات الجيش الإسرائيلي، لذلك من الصعب ألا نقول إن تصرفات إسرائيل كانت بمثابة مذبحة في حد ذاتها.

لقد لعبت معظم وسائل الإعلام الغربية دورا محوريا في تطبيع هذه الجرائم الفاحشة والوحشية. فمن أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى يناير/كانون الثاني 2025، قُتل 1091 رضيع في غزة، وهو عدد أكبر من العدد الإجمالي للمدنيين الإسرائيليين الذين قتلوا في 7 أكتوبر. قُتل ما مجموعه 17400 طفل – أي ما يعادل طفلا واحدا كل 30 دقيقة، وقد أفادت دراسة حديثة في مجلة لانسيت أن العدد الإجمالي المُعلن للوفيات في غزة أقل من التقديرات الحقيقية.

لقد نشرت صحيفة التايمز قصة عن مزاعم مروعة وغير مؤكدة حول قيام حماس بقطع رؤوس الأطفال الرضع؛ وبعد يومين، أعقبتها بقصة أخرى عن تشويه الأطفال الرضع والتمثيل بهم، وقد تبين فيما بعد أن هذه المزاعم غير المستندة إلى أدلة كانت مجرد شائعات. لكن في المقابل، فإن مقتل أكثر من ألف طفل رضيع فلسطيني ليس شائعات ــ بل لقد قتلتهم القوات الإسرائيلية بالفعل، وعلى حد علمي، لا توجد صفحة رئيسية لصحيفة التايمز تتحدث عن هذه الحقائق.

إن وحشية إسرائيل لم تقتصر على مذابح الأطفال، ففي وقت مبكر من الحرب الأخيرة، اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش إسرائيل باستخدام المجاعة كسلاح حرب، ثم خلصت وكالتان حكوميتان أميركيتان في الربيع الماضي إلى أن الدولة الإسرائيلية كانت تمنع عمدا شحنات المواد الأساسية من دخول غزة. وتعرضت جميع المستشفيات الـ 36 في غزة لهجمات متكررة؛ ولا يزال 17 منها فقط يعمل جزئيا. وتجري عمليات البتر والولادة القيصرية دون تخدير، وقُتل أكثر من 1000 عامل في مجال الرعاية الصحية. وبحلول صيف عام 2024، سُجِن ما يقرب من 10 آلاف فلسطيني، بما في ذلك مئات الأطفال، وقد وثقت الأمم المتحدة تقارير مروعة عن التعذيب والاعتداء الجنسي: حيث يتم احتجاز الرجال والنساء في حظائر تشبه القفص، مقيدين إلى الأسرة في حفاضات ومعصوبي الأعين، مجردون من ملابسهم، محرومون من الطعام والماء والنوم، فضلًا عن تعرضهم للتعذيب عبر الحرق السجائر، والإيهام بالغرق، والصعق بالكهرباء، وحتى الاغتصاب، بعضهم تعرض لاغتصاب الجماعي حسب شهادات.

في الواقع، كل ما تم سرده لا يعتبر أمرًا مفاجئًا أو مثير للدهشة، فلقد وصف الجنرال الإسرائيلي غسان عليان، المسؤول عن الشؤون المدنية في الأراضي المحتلة، المدنيين في غزة بـ”الوحوش البشرية”، ووعد بمعاقبتهم بحصار كامل وإخضاعهم لـ”الجحيم”. وقال مسؤول عسكري إسرائيلي آخر إن غزة “ستتحول في النهاية إلى مدينة من الخيام. لن تكون هناك مبان”.

وعلى النقيض من جيرنيكا، تم توثيق الجرائم المرتكبة في غزة صوت وصورة وقت ارتكاب الجرائم، فقد نشر الجنود الإسرائيليون أدلة على جرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي بكل سرور، ولجأ الناجون إلى الإنترنت لمشاركة لقطات لما تعرضه له، وعلى حد تعبير المحامية الأيرلندية بلين ني جرالاي، كان العديد من هؤلاء الناجين “يبثون التدمير الذي يتعرضون له بشكل مباشر على أمل يائس أن يفعل العالم شيئًا”.

ومع ذلك، استمرت حكومة المملكة المتحدة في تسليح إسرائيل، ولم توقف سوى 30 من 350 ترخيصًا للأسلحة بعد ضغوط شعبية وقانونية كبيرة. وفي الوقت نفسه، دافعت معظم وسائل الإعلام البريطانية عن جرائم إسرائيل، بل برّأتها في بعض الأحيان، وفشلت في ربط نيتها الإجرامية بأفعالها القاتلة. وفي مواجهة احتمال المحاسبة على تواطؤهم، سعى الزعماء السياسيون والمنافذ الإعلامية إلى تصوير معارضي الإبادة الجماعية الإسرائيلية على أنهم متطرفون خطرون. ووصفت وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافيرمان الاحتجاجات بأنها “مسيرات كراهية”؛ ووصفتها صحيفة صن كذلك بأنها “مظاهرات كراهية”، وكان القمع الذي شنته الشرطة على الاحتجاجات في لندن هذا الأسبوع مجرد أحدث مثال على هذا الاتجاه.

وبالرغم من أن تدمير جيرنيكا تسبب في صدمة واسعة النطاق، إلا أنه يجدر بنا أن نتذكر أنه بعد الهجوم، أصبح القصف الجوي الأكثر كارثية هو القاعدة الجديدة. وتشير التقديرات إلى مقتل 1650 شخصًا في جيرنيكا؛ لكن في غزة، من المرجح أن يكون الرقم الرسمي البالغ 47283 فلسطينيًا أقل بكثير من التقديرات الحقيقية، لكن الفظائع الأكبر التي ارتكبت في غزة لا تثير أي شيء مثل نفس الغضب في الأوساط الإعلامية والسياسية في الغرب الذي كان واضحًا في جريمة جيرنيكا.

يجب أن يكون هناك حساب ومساءلة. يجب محاكمة أولئك الذين واصلوا توريد الأسلحة لإسرائيل لمساعدتهم في تسهيل هذه الإبادة، يجب أن ينعكس أفعال أولئك الذين استخدموا منصاتهم الإعلامية لتبرير ذلك على سمعتهم.  بدون هذه المحاسبة، سيصبح المزيد من العنف أمرًا طبيعيًا، بل ومقبولًا.

هذا الخطر حاد بشكل خاص في عصر حيث يشكل اليمين المتطرف الحكومات وعندما تهدد حالة الطوارئ المناخية باضطرابات عالمية أعظم. يعرف المتواطئون أن الطريقة الوحيدة للدفاع عن أنفسهم هي شيطنة أولئك الذين وقفوا ضد الإبادة الجماعية، وقلب رأي العالم رأسًا على عقب.

للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا