العدسة – ربى الطاهر

احتل الخوف من الحسد اهتماما مبالغا فيه منذ آلاف السنين، وصنع القدماء التمائم لاعتقاداتهم المختلفة، إلا أن التميمة التي ظل الاعتقاد فيها بأنها تحمي من الحسد هي تميمة العين منذ آلاف السنين، والتي استمر الإيمان بقدرتها على درء الحسد حتى الآن.

وقد جاء هذا المفهوم في الرواية الإغريقية “أثيوبيكا”، لصاحبها هيلودوراس من إميسا أو حمص حديثا، وقد كتب: “عندما ينظر الشخص بعين حاسدة لشيء مميز يمتلئ المكان بغضا وكراهية، ويرسل سهامه المسمومة فيصيب بها من هو أقرب منه”.

وقد ظل هاجس التأثر بالحسد يسيطر على الإنسان منذ قديم الأزل، وورث هذا الاعتقاد جيلا إلى جيل، بل ومن ثقافة إلى أخرى، حتى إنه كانت هناك محاولات لجمع تلك الأساطير التي اُلفت حول هذا الاعتقاد في الثقافات المختلفة إلا أن ذلك كان أصعب من أن يحصره شخص، ويعتبر فريدريك توماس إيلورثي، من تمكن من جمع أكبر كم من تلك الأساطير بكتابه “العين الحاسدة: سرد كلاسيكي لخرافة قديمة”.

واستعرض فيه “إيلورثي” كيف تشكل هذا الهاجس في كل ثقافة على حدة، وبدأها بالنساء القبيحات اللاتي وصفتهن الأساطير الإغريقية بـ “الجرجونات” أي النساء شديدات القبح، واللاتي كن يحولن كل ما تقع عليه أعينهن إلى حجارة، وانتهى بتلك الحكايات الشعبية التي انتشرت بين الأيرلنديين حول هؤلاء الرجال الذين يستطيعون من نظرة واحدة أن يسحرون الخيل، وبينهما عرض لتلك الثقافات التي لم تخلُ واحدة منها من سرد الأساطير الخاصة بها، التي تتعلق بالعين الحاسدة الشريرة.

وحظيت تلك التميمة “عين الحسد” بشعبية ومكانة لم تحظ بها أية تميمة أخرى من يقين في قوتها على دفع الحسد والحماية من القوى الشريرة، وربما ليس أدل على ذلك من انتشار تلك التميمة بأسواق الدول على اختلاف ثقافاتها، بل وحتى في الإكسسوارات التي ترتديها النساء، أو الملصقات المختلفة، أو في هياكل الطائرات وصفحات المجلات.

ومنذ قديم الأزل، وتستخدم تلك التميمة، حتى إنها لازالت تفرض نفسها إلى يومنا هذا على عالم الموضة، فمثلا قد ظهرت “كيم كارديشان” في أكثر من مناسبة بأساور يدوية، أو أطواق رأس تعتليها تلك العين، كما استخدمته “جيجي حديد” أثناء افتتاح خط أحذية “أي لوف” في أواخر 2017.

العين في متعلقات المشاهير

وربما ظهور بعض المشاهير يستخدمون هذا الرمز بمتعلقاتهم، هو ما دفع البعض لإنشاء صفحات خاصة على الإنترنت أو مقاطع فيديو لشرح كيفية إدخاله في تصميمات الإكسسوارات من قلائد أو أساور أو سلاسل للمفاتيح.

وهو ما يوحي كذلك بتصاعد هذا الاهتمام المفاجئ بهذا الرمز في تلك الآونة، على الرغم من أن الاهتمام به لم يفتر منذ آلاف السنين.

وهناك فارق بين التميمة وعين الحسد، ولهذا وجب لفت الانتباه للفرق بينهما، فالتميمة مهمتها هي دفع الحسد، وفي نفس الوقت يطلق عليها أيضًا عين الحسد، وقد اختلفت أشكالها عبر السنوات من عقود كثيرة سابقة.

ويشغل الحسد خاطر الكثيرين، إذ يترسخ بداخل مكنون البشر أن النجاح أو التمييز في شيءٍ ما، يجلب غيرة وحسد الآخرين، ويترك هذا أثره عندما تلاحق هذا الشخص المحسود لعنة تحول نجاحه إلى فشل.

وقد كتب عن تأثير الحسد مفكرون كبار، ليؤكدوا اعتقادهم فيه، ويحاولوا تفسير قوته تلك، ومن أشهر هؤلاء الفيلسوف الإغريقي بلوتارخ، وقد حاول تقديم تفسير علمي للحسد من خلال كتابه “حلقات نقاش”، وقال فيه إن العين البشرية تطلق أشعة غير مرئية قد تصل قوتها لدى البعض للقدرة على تدمير أو هلاك أطفال أو حيوانات على سبيل المثال.

وذكر بلوتارخ أيضا في كتابه، أن بعض الناس لديهم القدرة على الحسد بقوة أكثر من غيرهم، واستشهد في ذلك بمجموعة من البشر تعيش في جنوب البحر الأسود لديهم قدرات خارقة في إصابة غيرهم من خلال الحسد، وقد اشتهر ما يقال إن له قدرة خاصة في الإصابة بالحسد بأنه من أصحاب العيون الزرقاء خاصة؛ لأن هذه الصفة نادرة في منطقة حوض البحر المتوسط.

وقد سرد “إيلورثي” حكاية شعبية بولندية قديمة في كتابه، تقول إن رجلا اشتهر بأنه حاسد لدرجة بالغة اضطرته هو نفسه لأن يقرر أن يقتلع عينيه عن أن يؤذي من يحب بعينيه الحاسدتين.

وكان من الطبيعي في ظل هذه الاعتقادات التي نشأت منذ القدم أن يواجهها مضادات لتلك الظاهرة الشريرة التي لا تأتي إلا بالمصائب والكوارث على من تصيبه، ومن هنا لجأ الناس في الحضارات القديمة إلى التمائم بأشكالها المختلفة لدرء هذا الأذى، والتي استمر شيوعها حتى الآن.

نشأة التمائم

وعن بداياة نشأة تلك التمائم تقول دكتورة نيس ييلديران، أستاذة التاريخ الفني بجامعة بهتشه شهير بإسطنبول: ” إن التاريخ الأول الذي ظهرت فيه التميمة على شكل العين يرجع إلى عام 3300 قبل الميلاد، وقد اكتشفت في تل براك، تلك المنطقة التي تعتبر واحدة من أقدم المدن فيما بين النهرين، وهي تقع مكان سوريا الآن، وتشكلت هذه التمائم القديمة على هيئة تماثيل من حجر الألباستر ذات عيون كبيرة منحوتة”.

إلا أن هذه التماثيل تختلف تماما عن تلك الخرزة الزرقاء المعروفة الآن، والتي يعود تاريخ بداية تداولها إلى نحو عام 1500 قبل الميلاد، وقد مرت هي الأخرى بمراحل لتتغير من هيئتها الأولى لتكون على هذا الشكل الحديث.

وعن تطور تلك الخرزة الزرقاء، توضح “ييلديران” أن هذه الخرزة صنعت بالأساس من الزجاج في جزر بحر إيجة وآسيا الصغرى، وارتبطت بتطور صناعة الزجاج هناك، وبالنسبة للون الأزرق فهو يرجع إلى أن الطين المصري المصقول يحتوي على نسبة مرتفعة من الأكاسيد، حيث إن النحاس والكوبلت ينتجان اللون الأزرق عندما يتعرضان للحرارة الخاصة بالحرق.

أما بالنسبة لقلائد عين حورس، والتي بدأت في مصر، فتضيف “ييلديران” أنها كانت الأكثر تأثيرا عن تلك التمائم الزرقاء من حيث الشكل، إذ إن القبائل التركية الأولى قد أعجبوا بدرجة اللون الأزرق الخاصة بها، لارتباطها بتنغري إله السماء، وقد اقتبسوا من المصريين استخدامهم للكوبلت والنحاس.

وقد قوبلت الخرزة الزرقاء التي ترسم بوسطها العين بالإعجاب، ومن ثم الانتشار في المنطقة، ثم استخدمها الفينيقيون والسريانيون واليونانيون والرومان، وعرفت بعد ذلك لدى العثمانيين الذين اشتهروا بها، ولكنها لاقت رواجا في دول حوض البحر المتوسط وبلاد الشام، ومنها إلى أرجاء المعمورة مع ازدهار التجارة وتوسع الإمبراطوريات.

ولم يتوقف اللجوء لاستخدام تلك التميمة الزرقاء على مدار آلاف السنين، إلا أنه مع مرور الوقت طرأ العديد من التغييرات على سبل الاستخدام، وهو ما يلاحظ الآن عند وضع تلك الخرزة الزرقاء في الطائرات مثلا، وهو نفس الأسلوب الذي استخدمه المصريون والإيتروسكانيون قديما، برسم عين على مقدمات السفن حتى يطمئنوا لمرورها بسلام.

هذا، ولا يزال الأتراك يحرصون على تحصين المولود بالعين الزرقاء في هداياهم، على اعتبار أنهم من أكثر المعرضين للحسد.

وترى “ييلديران” أن تلك التمائم تشكلت كجزء من ثقافة مناطق جغرافية كبيرة، والتي اختلفت استخداماتها من بلد لآخر وتطورت أشكالها كذلك، وهو ما يوحي بأنها قد تتطور إلى المزيد من الأشكال الجديدة في المستقبل.

ولعل هذه التمائم التي تخطت كل الحدود الثقافية والدينية والجغرافية، استطاعت أن تفرض وجودها، وترسخ قيمتها وجدانيا لدى شعوب العالم، فهو موروث ثقافي انتقل عبر الأجيال، ويعكس معتقدات راسخة لا يمكن النظر إليها بسطحية واعتبارها تصميما جذابا أو صيحة من صيحات الموضة.