ترامب يفرض الإملاءات
في خطوة تكشف مدى الإصرار الأمريكي على فرض وقائع جديدة في المنطقة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال توقيعه عددًا من الأوامر التنفيذية في البيت الأبيض، أنه سيلتقي ملك الأردن عبد الله الثاني في واشنطن، لمناقشة قضية استقبال الفلسطينيين المهجرين من غزة.
لم يكتفِ ترامب بذلك، بل أكد بثقة أنه “يعتقد أن الملك سيأخذ الصفقة وسيأخذ الفلسطينيين”، في إشارة واضحة إلى أن واشنطن تمارس ضغوطًا غير مسبوقة على عمان والقاهرة لقبول المخطط.
يتماشى هذا التصريح مع التوجه العام لإدارة ترامب، التي اقترحت سابقًا أن تتولى الولايات المتحدة زمام الأمور في غزة، بعد نقل سكانها إلى مصر والأردن، وتحويل القطاع إلى ما وصفه ترامب بـ”ريفييرا الشرق الأوسط”.
هذا الطرح، الذي يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر خطوات متدرجة، لم يكن مفاجئًا في سياق السياسات الأمريكية الداعمة للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي، لكنه أثار رفضًا علنيًا في الأردن ومصر، خشية ردود الفعل الشعبية الغاضبة.
ازدواجية المواقف بين القاهرة وعمّان: الرفض العلني والمساومة السرية
في الوقت الذي شددت فيه وزارة الخارجية المصرية على رفضها لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين، واصفةً إياه بأنه “خرق صارخ للقانون الدولي”، كان وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي في واشنطن يجري مباحثات مع نظيره الأمريكي مارك روبيو.
عبد العاطي كرر خلال اللقاء “موقف مصر الثابت من القضية الفلسطينية”، لكن في المقابل، فإن الإدارة الأمريكية لم تُخفِ إمكانية استخدام المساعدات العسكرية كأداة ضغط، وهو ما عبر عنه ترامب بشكل صريح عندما قال: “إذا لم يوافقوا، ربما أحجب هذه الأموال”.
مصر، التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، تدرك أن استمرار تدفق المساعدات الأمريكية ضروري لاستقرار النظام، وهو ما يجعل موقفها في مواجهة المخطط الأمريكي هشًا.
صحيح أن القاهرة لا تستطيع القبول العلني بفكرة التوطين، لكنها أيضًا لا تملك القدرة على التصعيد في مواجهة الضغوط الأمريكية، خاصة أن نظام السيسي يعتمد بشكل أساسي على الدعم الأمريكي والإسرائيلي في سياساته الداخلية والخارجية.
الأمر لا يختلف كثيرًا في الأردن، حيث شدد الملك عبد الله الثاني في تصريحات رسمية على “رفض تهجير الفلسطينيين وضرورة تثبيتهم على أرضهم”، لكن تصريحات ترامب الأخيرة، التي أكد فيها أن الأردن قد يقبل بالصفقة، تثير تساؤلات حول حقيقة الموقف الأردني.
فهل يسعى الملك إلى كسب الوقت واحتواء الغضب الشعبي، أم أن هناك تفاهمات غير معلنة بين عمان وواشنطن حول شكل الترتيبات المستقبلية؟
“تهديد وجودي” للأردن أم فرصة لتعزيز النفوذ؟
لطالما كان الأردن الحلقة الأضعف في أي تسوية إقليمية، بحكم موقعه الجغرافي وارتباطه الوثيق بالقضية الفلسطينية. واليوم، يجد نفسه في مأزق سياسي خطير، حيث يواجه ضغوطًا أمريكية مباشرة لقبول توطين أعداد كبيرة من الفلسطينيين، وهو ما اعتبره محللون تهديدًا وجوديًا للمملكة.
يرى عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية، أن خطة ترامب تمثل “وصفة للخراب”، مؤكدًا أن تهجير الفلسطينيين إلى الأردن يعني “إغراق البلاد بموجة جديدة من اللاجئين، وهو ما سيخلق أزمة داخلية غير مسبوقة”. الرنتاوي شدد على أن “هذه ليست مجرد مسألة إنسانية، بل قضية أمن قومي تمس هوية الدولة الأردنية واستقرارها”.
في المقابل، لا يمكن تجاهل أن بعض دوائر صنع القرار في الأردن قد ترى في هذا المخطط فرصة لتعزيز نفوذها الإقليمي، عبر الحصول على امتيازات اقتصادية وسياسية من واشنطن مقابل قبول تسوية معينة. فالتاريخ يشهد أن الأردن، رغم مواقفه العلنية المناهضة للخطط الأمريكية، لم يكن يومًا بعيدًا عن دائرة الحسابات الاستراتيجية للإدارة الأمريكية.
“ريفييرا الشرق الأوسط”: مشروع استيطاني بغطاء اقتصادي
رؤية ترامب لغزة ليست جديدة، بل هي امتداد لنهج الإدارات الأمريكية المتعاقبة في التعامل مع القضية الفلسطينية كملف أمني واقتصادي، وليس كقضية تحرر وطني. فبحسب التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي، فإن الولايات المتحدة ستتولى إدارة غزة بعد تهجير سكانها، دون الحاجة إلى وجود قوات أمريكية على الأرض.
يصف مسؤولون أمريكيون هذه الخطة بأنها “مشروع إعادة إعمار”، لكن الواقع يشير إلى أنها مخطط استيطاني جديد، يهدف إلى إزالة الطابع الفلسطيني عن القطاع، وتحويله إلى منطقة اقتصادية مفتوحة تخدم المصالح الإسرائيلية بالدرجة الأولى. وكما أشار جيسون إيزاكسون، رئيس الشؤون السياسية في اللجنة اليهودية الأمريكية، فإن “الفكرة تتضمن منطقًا معينًا، فإذا كنت تهدم مباني كثيرة، فمن الطبيعي أن تبعد السكان عن الطريق”.
لكن المشكلة الأكبر في هذا الطرح ليست فقط في تبعاته السياسية، بل أيضًا في استحالة تنفيذه على أرض الواقع، حيث تؤكد التقارير الأممية أن 69% من مباني غزة دُمرت أو تضررت بفعل الحرب الأخيرة، مما يعني أن إعادة الإعمار تحتاج إلى عقود طويلة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي.
مقاومة الشارع العربي: الورقة الرابحة أمام المخطط الأمريكي
إذا كان ترامب يعتقد أن بإمكانه فرض مخطط التهجير بالقوة الاقتصادية والسياسية، فإن الشارع العربي لديه رأي آخر. ففي الأيام الماضية، شهدت عدة محافظات أردنية احتجاجات غاضبة رفضًا لأي حديث عن تهجير الفلسطينيين إلى المملكة، في مشهد يذكّر بالاحتجاجات التي اندلعت سابقًا رفضًا لصفقة القرن.
في مصر، ورغم القبضة الأمنية المشددة، فإن أي تحرك رسمي نحو قبول التوطين سيشكل خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه بسهولة، خاصة أن القضية الفلسطينية تظل واحدة من القضايا التي تجمع عليها جميع القوى السياسية في البلاد، حتى داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية.
أما في غزة، فقد جاء الرد واضحًا من الفصائل الفلسطينية، التي أكدت رفضها المطلق لأي محاولة لفرض واقع جديد بالقوة. حركة حماس، التي تسيطر على القطاع، وصفت الخطة الأمريكية بأنها “مؤامرة لتصفية القضية”، فيما شددت السلطة الفلسطينية على أن “أي محاولة للحديث عن إعادة توطين الفلسطينيين مرفوضة بالكامل”.
ختامًا: هل ينجح ترامب في فرض خطته؟
بين الضغوط الأمريكية والمواقف الرسمية المرتبكة، تبقى الكلمة الأخيرة للشعوب. فالتاريخ أثبت أن أي محاولة لفرض مشاريع تصفية القضية الفلسطينية لن تمر بسهولة، حتى لو كان بعض القادة العرب مستعدين للمساومة عليها.
ومع اقتراب لقاء ترامب بملك الأردن، يبدو المشهد أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. فهل يواصل الأردن ومصر سياسة اللعب على الحبال، أم أن الضغط الشعبي سيدفعهم لاتخاذ موقف أكثر حسمًا؟ الأكيد أن الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد المسار الذي ستتخذه هذه الأزمة، لكن المؤكد أيضًا أن الفلسطينيين لن يقبلوا أن يكونوا ورقة تفاوض في لعبة المصالح الإقليمية والدولية.
للكاتب معتز السيوفي
اضف تعليقا