العدسة – منصور عطية
يبدو أن المغرب على موعد متجدد مع احتجاجات شعبية ذات مطالب اقتصادية واجتماعية، تعيد الزخم إلى البلاد، بعد أن خفت كثيرا صوت الحراك الريفي المندلع منذ نحو عام ونصف.
مدينة “جرادة” منطلق تلك الاحتجاجات المتواصلة منذ 4 أشهر، وسط دعوات للإضراب العام على إثر توقيف ناشطين، الأمر الذي يفتح المجال لمزيد من التصعيد المتبادل بين السلطات المغربية وقادة الحراك في المدينة.
دعوات للإضراب ومواجهة مرتقبة
وردًّا على اعتقال السلطات المغربية 4 ناشطين، دعا قادة الحراك الاجتماعي في مدينة جرادة الواقعة شمال شرق البلاد، إلى تصعيد الاحتجاجات والدخول في إضراب عام.
الدعوة تأتي بعد يومين من مسيرة انطلقت الأحد الماضي، احتجاجا على الاعتقالات التي تعتبر الأولى منذ بدء الحراك في نهاية ديسمبر الماضي، إثر وفاة شقيقين في منجم للفحم كانا يعملان فيه، كما توفي شخص ثالث بعد ذلك بأسابيع.
ويقول النشطاء إن العشرات توفوا في ظروف مزرية لاستخراج الفحم بطريقة عشوائية من مناجم أعلنت الدولة نضوبها عام 1998 وإغلاقها، فيما يطالب سكان جرادة ببديل اقتصادي عن إغلاق مناجم الفحم التي تعتبر مصدر رزقهم الأساسي.
في المقابل، توعدت السلطات المغربية بأنها ستتعامل بحزم مع الحراك، الذي وصفته بـ”التظاهر غير القانوني بالشارع العام”، وفق تعبير بيان وزارة الداخلية الصادر الثلاثاء.
ونفت السلطات، بحسب رويترز، الربط بين الاعتقالات والحركة الاحتجاجية في المدينة، وقالت إن اعتقال هؤلاء “لا علاقة له مطلقا بالمظاهرات، وإنما بجنح ومخالفات قانونية”.
وأعلنت السلطات في 16 يناير 2018، خطة طارئة لتحقيق مطالب السكان، وتهدف الخطة -بحسب وكالة الأنباء المغربية الرسمية- إلى “الاستجابة للمطالب العاجلة لسكان إقليم جرادة”، وتشمل فاتورتي الماء والكهرباء، وإحداث فرص عمل ومراقبة استغلال مناجم الفحم المتهالكة، وتدهور البيئة وتعزيز خدمات الصحة.
كما تشمل الخطة مشروعات من شأنها توفير فرص عمل، بينها إنشاء محطة حرارية خامسة بجرادة، ومنح أولوية التوظيف لقاطني المنطقة، لكن من دون تحديد موعد بدء تنفيذ تلك الخطة، الأمر الذي لم ينجح في وقف الاحتجاجات.
حكاية “جرادة”
تقع مدينة جرادة شرق المغرب بالقرب من الحدود مع الجزائر، وتبعد عن محافظة وجدة، التي توصف بعاصمة الشرق، بنحو ستين كيلومترا، وبحسب الإحصاء الرسمي لعام 2014، يبلغ عدد سكان إقليم (محافظة) جرادة نحو 108 آلاف، في حين وصل عدد سكان المدينة نفسها إلى 43490.
قبل اكتشاف الفحم الحجري، اعتمدت القبائل القاطنة بمنطقة جرادة على النشاط الرعوي، وبسبب عدم انتظام سقوط الأمطار وضعف التربة، لم تعتمد تلك القبائل على النشاط الفلاحي، وكانت مضطرة للرحيل بحثا عن الكلأ للثروة الحيوانية.
وفي 1927، اكتشف المحتل الفرنسي الفحم الحجري بها، وسارع لإنجاز التجهيزات الضرورية بالمدينة لبدء استغلال ثروات الفحم الذي تزخر به المدينة، وهو من نوع “الأنتراسيت” ويعد من أجود أنواع الفحم الحجري في العالم.
ومع مرور الأعوام، بدأت طبقة اليد العاملة تتسع، وكبرت المدينة، حيث شكلت مناجم جرادة فرصة للعمل بالنسبة لعشرات آلاف العمال من مختلف مناطق المغرب، لكن كل شيء تغير مع قرار الحكومة المغربية إغلاق تلك المناجم عام 2001، بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج، وتعهدت بتوفير بدائل اقتصادية لسكان المدينة، لكن السكان يؤكدون أن شيئا من ذلك لم يحدث، علما بأن المناجم كانت العمود الفقري لاقتصاد المدينة.
ولجأ بعض الشباب للبحث عن الفحم الحجري بطرق غير نظامية، عبر حفر آبار تقليدية في ضواحي المدينة، يطلق عليها محليا اسم “الساندريات”، وهي التي تسببت في اندلاع احتجاجات كبيرة في 2018 حظيت بتغطية إعلامية دولية.
العمل بـ”الساندريات” في جرادة كان دوما محفوفا بالمخاطر، إذ إن الشباب العاطلين المنحدرين من عائلات تعاني من فقر مدقع يلجؤون لحفر آبار بطرق بدائية، يتراوح عمقها بين خمسين وثمانين مترا، ثم عند الوصول لطبقة الفحم يبدءون الحفر بشكل عرضي متتبعين خطوط الفحم، وهو ما يتطلب منهم محاولة “تثبيت” طبقات الأرض المحفورة بجذوع الأشجار التي يقطعونها من الغابة المجاورة، أما الإضاءة فيلجؤون للشموع التي تحرق ما تبقى من أوكسجين داخل أعماق الأرض المظلمة.
وبسبب كل ذلك، لقي عاملون “بالساندريات” مصرعهم في حوادث مؤلمة على مدى سنوات طويلة، بينها انهيار طبقات الأرض عليهم، أو تفجر المياه الجوفية، بالإضافة إلى الأمراض التنفسية العديدة التي سببها استنشاق الغازات السامة بباطن الأرض، وغبار الفحم الحجري الذي يتسبب في مرض السحار السيليسي أو السيليكوزيس (Silicosis)، وهو مرض رئوي سببه استنشاق جسيمات غبار ثنائي أوكسيد السيليكون وغازات أخرى تؤدي إلى التهابات حادة بالرئة التي تفشل في أداء وظيفتها مع مرور الوقت.
ويعتبر هذا المرض القاتل السبب الرئيسي في وفيات الذين عملوا بمناجم المدينة بشكل نظامي قبل إغلاق المناجم، حيث إن نسبة من نجح منهم في الوصول لسن التقاعد وهو على قيد الحياة قليلة جدا، ولهذا السبب يصف السكان جرادة بأنها “مدينة الأيتام والأرامل”.
وفي 22 ديسمبر 2017، اندلعت احتجاجات كبيرة بالمدينة، إثر وفاة أخوين غرقا داخل إحدى “الساندريات”، وظلا داخلها ساعات طويلة قبل أن ينجح رفاقهما في انتشال جثتيهما.
واستمرت الاحتجاجات عدة الأيام، وقدم المحتجون عدة مطالب؛ بينها ضمان بدائل اقتصادية لتشغيل الشباب، وتنفيذ ما تعهدت به الدولة عقب إغلاق المنجم، إلى جانب فك العزلة عن المدينة عبر فتح طرق، ومراجعة فواتير الماء والكهرباء، وإنشاء مدارس وملحقة جامعية، ودعم الفلاحين الصغار بالمحافظة، وتعزيز البنية التحتية، وتحسين المرافق الخدمية.
الريف وشرارة الغضب
اللافت، أن المطالب التي ترفعها الحركة الاحتجاجية في الجرادة تتلاقى وتنسجم مع مطالب الريف المغربي، الأمر الذي ينذر بأن يشكل تصاعد الأحداث في جرادة مقدمة لإشعال الغضب الشعبي في البلاد التي نجت من رياح الربيع العربي عام 2011.
ورأى مراقبون أن التوقيفات الأخيرة في جرادة قد تؤدي إلى تفاقم الأزمة، مثلما جرى في منطقة الريف المجاورة التي شهدت مظاهرات العام الماضي، وأوقفت السلطات فيها أكثر من 450 شخصا.
ومنذ أكتوبر 2016 تشهد الحسيمة (شمال المغرب) ومدن وقرى أخرى في منطقة الريف احتجاجات مستمرة للمطالبة بـ”التنمية ورفع التهميش ومحاربة الفساد”.
وتفجّر حراك الريف في الحسيمة وبلدة أمزورن، إثر مقتل بائع السمك “محسن فكري” في شاحنة لضغط النفايات بالحسيمة، عندما حاول استعادة كمية من السمك صادرتها الشرطة المحلية منه.
وفي سبتمبر الماضي، أبدى المعتقلون من قادة حراك الريف بمدينة الحسيمة استعدادهم للحوار، وجاء في بيان صدر عن أعضاء في “المبادرة المدنية لحراك الريف” زاروا النشطاء المعتقلين بالدار البيضاء، أن “الوفد التقى لأكثر من ثلاث ساعات بمجموعتين من المعتقلين على خلفية الحركة الاحتجاجية المطلبية بالحسيمة والريف عموما”.
وأضاف البيان أنه تبين للوفد “استعداد الجميع وبدون استثناء للانخراط في أي حوار جدي من شأنه الحفاظ على المصلحة العامة للبلاد وتوفير مخرج إيجابي للملف”.
اضف تعليقا