العدسة – جلال إدريس

بعد سنوات من التوغل الإماراتي في القارة السمراء، هل بدأ الأفارقة في لفظ النفوذ الإماراتي من بلدانهم، وهل اقترب اليوم الذي تصبح فيه الإمارات بلا قوة ولا نفوذ داخل قارة إفريقيا؟ وهل أصبحت “أبوظبي” بالنسبة للأفارقة كالزائدة الدودية، التي آن أوان استئصالها من القارة الإفريقية لتشفى تماما من عللها.

تلك التساؤلات وغيرها باتت تطرح على الساحة السياسية الإفريقية، بعد الصفعات المتتالية التي صفعها الأفارقة على وجه دولة “أبناء زايد” من شمال إلى جنوب إفريقيا.

وبالرغم من أن الإمارات في الأساس ليست دولة إفريقية، وإنما تقع في “جنوب غرب قارة آسيا”، إلا أنها عملت على مدار سنوات طوال على بسط نفوذها في القرن الإفريقي، وسعت لشراء ولاءات حكام وحكومات إفريقية، عن طريق الدعم السياسي تارة، والدعم المالي والعسكري تارة أخرى.

لكن مؤخرا بدأ النفوذ الإماراتي يتقلص شيئا فشيئا، إما لصالح سيادة تلك الدول الإفريقية، أو لصالح نفوذ دولا أخرى زاحمت الإمارات في النفوذ والهيمنة ثم تفوقت عليها.

(العدسة) يستعرض في هذا التقرير أسباب تأزم دولة “أبناء زايد” مع دول “شمال إفريقيا”، التي تبدأ بالجزائر وتمر بالمغرب وتونس وتصل إلى ليبيا وتنتهي بالسودان”، كما يلقي الضوء على أبرز الصفعات القوية التي تلقتها الإمارات من تلك الدول:

الجزائر

خلال سنوات طويلة حاولت الإمارات، أن تتوغل في “دولة الجزائر”، عبر شبكة من العلاقات مع مسؤولين بالجيش الجزائري والأجهزة الاستخباراتية، ووسعت تلك العلاقات، من خلال التبادل التجاري والاستثماري مع الجزائر، وعقدها اتفاقيات أمنية وعسكرية مشتركة.

ومن خلال تلك العلاقات، سعت الإمارت إلى أن تكون “الجزائر” تابعة لها في بعض المواقف الخارجية، خصوصا في تلك المواقف المتعلقة بالمنطقة العربية والإقليمية، والتي تملك الجزائر ثقلا كبيرا فيها.

إلا أن الجزائر على ما يبدو رفضت تلك التبعية، وقررت اتخاذ مواقف متباينة للمواقف الإماراتية في بعض الأزمات، حتى بدأت الفجوة بين البلدين تتسع شيئا فشيئا، وأضحت الدولة الإفريقية تبتعد كثيرًا عن سياسات الدولة الخليجية، بل ووصل الأمر إلى اتخاذ الجزائر موقف مغايرة تماما عن الإمارات؛ بحجة الحفاظ على أمنها القومي.

الأزمة الخليجية الأخيرة، كانت أبرز المواقف التي كشفت عن عمق الخلاف بين الجزائر والإمارات، حيث انحازت “الجزائر” للدوحة، بخلاف الموقف الإماراتي المشارك في حصار “قطر”، وهو ما اعتبره كثيرون صفعة جزائرية على وجه “أبوظبي”.

لم يكن الموقف من الأزمة الخليجية وحده هو عنوان الأزمة بين “الجزائر والإمارات”، لكن سبقها أيضا موقف البلدين المتباين من الأزمة الليبية، وبعدها من الأحداث التونسية، ومن ثم حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، ثم الموقف من “حزب الله” اللبناني، وأخيرا الموقف من إيران.

ورغم أن التوتر الهامس بين البلدين لم يخرج للعلن؛ إلا أن تزايد المواقف المتباينة والمتعددة يكشف بوضوح عن أن العلاقات بين البلدين تدهورت بشكل كبير.

وللاطلاع على صورة كاملة عن أبرز هذه الملفات وطبيعة هذه الخلافات بين الجانبين، وكيف انعكست على خياراتهما في الشرق الأوسط، يمكن العودة لتقرير لعدسة) السابق في هذا الملف.

المغرب

ووفقا لمراقبين فإن العلاقات القديمة بين الإمارات والمغرب، لم يشفع لها الموقف الحيادي الذي اتخذته المغرب حيال الأزمة الخليجية مع “قطر”، حيث رفضت المغرب السير في ركاب الإمارات ومقاطعة قطر والمشاركة في حصارها، وهو ما جعل العلاقات بين البلدين في دائرة الأزمات.

ويؤكد المراقبون أن شهر العسل بين المغرب ودول الخليج العربي – وبالخصوص الإمارات العربية- انتهى تقريبا على خلفية نزاع هذه الدول مع قطر، حيث فضلت المغرب الاستقلالية التامة عن المحور السعودي-الإماراتي، خاصة عن وزير الدفاع في الإمارات وولي العهد محمد بن زايد صديق الملك محمد السادس، ونأى بنفسه خشية من مغامرة عسكرية ضد قطر.

وشرحت الرباط موقفها بأنه مرتبط بحرصها على الصف العربي، وبالخصوص بين أنظمة ملكية، إلا أن ذلك لم يشفع لها عند “أبوظبي”، فقررت “دول الخليج” وقف المساعدات التي كانت تقدمها للمغرب، بينما تولت وسائل إعلام مقربة من القصر المغربي نفي أية علاقة للموقف الرسمي بتأخر المساعدات الاقتصادية الخليجية للمغرب.

لم يقتصر الأمر على ذلك، بل أخذت قنوات فضائية إماراتية في الهجوم على المغرب، ولعبت وسائل الإعلام تلك، على ملف “الصحراء الغربية”، وبثت وسائل إعلام إماراتية ريبورتاجات تصور المغرب كقوة احتلال، وتقدم جبهة البوليساريو كدولة، باستعمال تسمية “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية”.

ولأن المغرب يعتبر قضية الصحراء قضية مقدسة، وأن الاقتراب منها هو ضرب في وحدته الوطنية، فقد أبدت الدبلوماسية المغربية امتعاضا غير مباشر من تلك المساحات الملتهبة التي اقتربت منها وسائل إعلام خليجية، لتبدأ بعدها أزمة حقيقية، غير أنها مكتومة بين المغرب والإمارات، ربما بسببها تلقت الإمارات الصفعة الثانية من الشمال الإفريقي بعد الجزائر.

تونس

علاقة الإمارات بتونس ليست أفضل حالا من علاقتها بالمغرب والجزائر، بل يمكن القول إن العلاقات مع “تونس” أشد تأزما والتهابا، خصوصا بعدما فشلت الأيادي الإماراتية التي كانت تعبث في تونس، في تحقيق رهانها على الرئيس التونسي “الحالي”، “الباجي قائد السبسي”، الذي كان أذكى من “أولاد زايد”، واختار التوافق مع حركة “النهضة”، الامتداد الفكري لجماعة الإخوان المسلمين، بدلا من إقصائها وزج قياداتها في السجون كما تسعى “أبوظبي”، حتى لا تشهد بلاده إعادة إنتاج المشهد المصري، قد أزعجها ذلك، وجعلها تبحث عن بديل له، لتمرير أجندتها المعادية لثورات الربيع العربي.

وكشفت مصادر أمنية جزائرية عن تحركات إماراتية “مشبوهة”، شملت زرع جواسيس ودعم مؤسسات وأشخاص بعينهم، بهدف توسيع دائرة نفوذها في تونس، وزعزعة استقرار البلاد، وتنفيذ انقلاب على نظام الحكم الحالي، وذلك بحسب ما أورد موقع “موند أفريك” الفرنسي.

ومن بين الشخصيات التي تدعمها الإمارات لإسقاط حركة النهضة التونسية، ظهر اسم “محسن مرزوق”، الأمين العام لحركة “مشروع تونس”، واليد اليمنى السابقة للرئيس التونسي الحالي “الباجي قائد السبسي”.

وبسبب كل ذلك، تدهورت العلاقات بين البدين مؤخرا، وتجاهل الإماراتيون وعودهم تجاه “السبسي”، بعد أحاديثهم عن دعمهم المالي لتونس، بل تحول الأمر لحصار، وكان آخر ذلك، أزمة الطيران بين البلدين، كما أوقفت الإمارات الهبة التي كانت قد وعدت “تونس” بإعطائها إياها، والتي بلغت 200 مليون دولار، لتغطية الاحتياجات الضرورية للمستشفيات التونسية عبر مؤسسة “خليفة بن زايد” للأعمال الإنسانية، فضلا عن توقيع مذكرة تفاهم مع صندوق أبوظبي للتنمية، لتمويل عدة مشاريع تنموية في عدد من المناطق الداخلية، وذلك في مارس 2012.

وبطبيعة الحال، تسببت النقاط السابقة في تعميق حجم الخلاف بين البلدين، وجعل حكومة أبوظبي تتلقى صفعة ثالثة على وجهها من شمال إفريقيا، وبالتحديد من “تونس الحرة”.

ليبيا

رغم كل الدعم العسكري والسياسي الذي قدمته الإمارات للجماعات المسلحة المرتبطة باللواء خليفة حفتر في ليبيا، إلا أن أغلب المراقبين يؤكدون أن الإمارات لن يكون لها في المستقبل يد طولى على الليبيين، خصوصا وأن أغلب الفصائل الليبية باتت تتبرأ منها، وتعتبر التبعية للإمارات سبة وعارًا في جبين الثورة الليبية.

ما عزز هذا التصور، هو الدور القذر الذي تلعبه الإمارات في ليبيا، منذ رحيل القذافي ونظامه عن الحكم بعد ثورة الليبيين في فبراير 2017، حيث تحدت الإمارات رغبة الليبيين في التغيير السلمي، ودفعتهم للاقتتال للحفاظ على الثورة التي سعت الإمارات لاختطافها عن طريق “حفتر” وميليشياته العسكرية.

وتؤكد الكثير من المنظمات الحقوقية المحلية بليبيا، ارتكاب “الإمارات” جرائم حرب داخل الأراضي الليبية؛ ما أسفر عن مقتل مئات المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وقالت منظمات مدنية ليبية -خلال مؤتمر في جنيف- إن الإمارات ارتكبت هذه الجرائم عبر عمليات القصف التي نفذتها في ليبيا، سواء بصفة مباشرة أو عبر دعمها قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وعرضت شهادات على عمليات القتل والتجويع والتشريد التي تعرض لها الشعب الليبي، خلال حصار قوات حفتر منطقتي درنة وقنفودة.

إلى جانب ذلك، فإن الإمارات تواجه إدانات جديدة، تتمثل في اتهام “محمد بن زايد” بسرقة الأموال المجمدة في الخارج، وتهريبها لصالح خليفة حفتر.

وكشف محمد أمعزب، النائب الثاني لرئيس المجلس الأعلى للدولة بليبيا، عن قيام الإمارات باستنزاف الأموال الليبية المجمدة في بنوكها في دعم قوات الجنرال خليفة حفتر المكلف بتنفيذ مشروع أبو ظبي في ليبيا.

وقال “أمعزب” في تصريحات صحفية: “إن لديه معلومات شبه مؤكدة تتحدث عن تصرف أبوظبي في الأموال الليبية المجمدة في بنوك الإمارات للإنفاق على العمليات العسكرية لقوات حفتر، مشيرا إلى أن هذه الأموال يتم إنفاقها أيضا في تمويل قاعدة “الخادم” الإماراتية الجوية شرق مدينة بنغازي، فيما طالب أبوظبي بالكشف عن مصادر تمويل العمليات والإمدادات العسكرية لقوات حفتر، مشككا بالنفي الإماراتي المتكرر حول التصرف بالأرصدة الليبية المجمدة لديها”.

كل تلك الاتهامات، تعزز وتؤكد أن “الإمارات” لن يكون لها دور فاعل أو حيوي في ليبيا حال استقرت الأوضاع السياسية فيها، لتخرج “الإمارات” ذليلة من آخر المعاقل التي تحاول التوغل فيها بالشمال الإفريقي.

السودان

السودان هي الأخرى لم تعد على وفاق مع دولة الإمارات، بل وصل الخلاف بين البلدين إلى حد تخطيط الإمارات محاولات انقلاب على الرئيس السوداني “عمر البشير”، وفقا لمصادر سودانية وتغريدات المعارض الإماراتي الشهير بـ”مجتهد الإمارات”.

ورغم أن النفوذ الإماراتي في السودان هو نفوذ قديم ومرتبط بمحاولات “الإمارات” الدائمة السيطرة على الدول الإفريقية، إلا أن هذا النفوذ بات يتراجع بشكل كبير، بسبب الخلافات بين البلدين، خصوصا بعدما فتحت “الخرطوم” أبوابها لتركيا، والتي تعد منافسا حقيقا للإمارات في إفريقيا.

وبسبب منح السودان جزيرة “سواكن” لتركيا، زادت الهوة بين “السودان والإمارات”، حيث إن هذا المنح يقف عقبة أمام أحلام “أبوظبي” للسيطرة على موانئ البحر الأحمر وبسط نفوذها العسكري والسياسي في إفريقيا بعيدا عن السعودية.

الأمر لم يقف عند هذا الحد وحسب، بل دفعت الإمارات نحو مزيد من التوتر بين السودان ومصر؛ حيث دفعت “أبوظبي” مصر لإرسال تعزيزات عسكرية إلى إريتريا، نكاية في الخرطوم.

أيضًا، فإن إخلاف “الإمارات والسعودية” وعودها لـ”البشير” بتدفق المساعدات المالية عليه في مقابل دعم الحرب على اليمن بآلاف الجنود السودانيين، زاد من حدة الخلاف بين البلدين، إلى جانب انحياز الإمارات لصف “مصر” في الصراع بين الخرطوم والقاهرة على “حلايب وشلاتين”.

كل تلك الخلافات عمقت الأزمة بين الإمارات والسودان، وجعلت الخرطوم تصفع “الإمارات” صفعة جديدة على وجهها، وقللت بصورة أو بأخرى من نفوذها القديم في القرن الإفريقي.