العدسة _ ربى الطاهر
حالة غريبة عانت منها تلك الفتاة البالغة من العمر الآن 27 عامًا؛ فهذه الفتاة بإمكانها أن تتذكر كل ما مرَّ بها من أحداث بداية من عمر الأسبوع.
إلا أنَّ ريبيكا شاروك لم تكن الحالة الفريدة من نوعها التي تمتلك تلك القدرة الخارقة على التذكر؛ فقد اكتشفت عدة حالات حول العالم بإمكانهم أن يفعلوا ذلك، ولكن هل لهذه القدرة الخارقة تأثير إيجابي أم سلبي على حياة من يعيشون تلك التجربة من عدم النسيان.
فبدون أي مجهود تستطيع ريبيكا أنّ تخبر المحيطين بلون تلك البطانية الزهري التي كانت تلف بها أثناء ما كانت في أسبوعها الأول من بدايات عمرها، كما أنها تفسر مشاعرها تجاه والدتها في تلك المرحلة، والتي كانت دومًا تحملها فتغذي لديها تلك المشاعر التي جعلتها ترتبط بها دونًا عن أي شخص آخر، وأدركت ذلك بغريزتها.
وقد يظن البعض أن ما تقوله ريبيكا لا يتعدَّى كونه أحلامًا لليقظة، فمن المعروف ان الذاكرة لدى الأشخاص العاديين تبدأ في سن الرابعة فكيف لها أن تصف ليس فقط الأحداث بل مشاعرها كذلك.
متلازمة فرط التذكر
ولكن الواقع يقول إن ريبيكا التي تعيش في مدينة بريسبان بأستراليا، ليست مثل الأشخاص العاديين إلا أن تلك الحالة تم توصيفها بأنها متلازمة نادرة يطلق عليها “الذاكرة الذاتية بالغة القوة”، ويتم اختصارها علميا لاسم “أتش أس إي أم”، وتعرف كذلك باسمها يبرسيميثيا (أومتلازمة فرط التذكر).
وهذه الحالة تعني أن المصابين بها لديهم القدرة على تذكر كل الأحداث التي مروا بها في مرحلة من حياتهم، حتى أدق التفاصيل فمهما مرت السنوات يمكنهم تذكر ألوان الملابس التي ارتدوها في مناسبة ما ونوعها، كما لديهم القدرة على تذكر الأحداث العامة بكل تفاصيلها، كما لو كانت مسجلة عن طريق الصوت أو الفيديو وأين كانوا وقت وقوعها.. الخ
ولعبت الصدفة دورًا مهمًا لكي تكتشف ريبيكا الحالة التي تخضع لها، فقد كانت تعتقد أن كل الناس مثلها بإمكانهم تذكر كل تفاصيل حياتهم بهذه الدقة، إلى أن حدث أنها كانت تشاهد بصحبة والدها برنامجًا تليفزيونيًا عن بعض الأشخاص الذين يتعرضون لمتلازمة “أتش أس إي أم”.
وتسترجع ذلك بتاريخه التى قالت إنه كان في 23 يناير 2011، حينما شاهدت أشخاصًا مثلها يتحدثون عن ذكرياتهم وسط ذهول المستمعين من الإعلامين المحاورين لهم، وشعرت بهذا الاندهاش من تلك الجمل المعبرة مثل هذا أمر مدهش ولا يصدق، وتعجبت لهذا الاندهاش، وهنا بدأت في إدارك حالتها واختلافها عن الآخرين، حين سألت والدها لماذا يندهش هؤلاء أليس هذا أمرًا طببعًا، ولكن والدها قال إنه أمر خارق للعادة، وإنها قد تكون مثل هؤلاء الأشخاص، وربما تكون مصابة بنفس المتلازمة التي يعانون منها.
وهنا جرت المحاولات للاتصال بالمتخصصين الذين تم ذكر أسمائهم في هذا التقرير التليفزيونى، وبالفعل خضعت ريبيكا للاختبارت التى أثبتت نتائجها أنها إحدى هؤلاء الحالات التي عرضوها، وكان ذلك في عام 2013.
ولم يزد عدد المصابين بتلك المتلازمة “أتش أس أي أم” عن 60 شخصًا فقط على مستوى العالم، وكانت هذه المتلازمة قد اكتشفت في عام 2000.
وتوصلت بعض الدراسات إلى أن المنطقة المسئولة عن التذكر في المخ تكون أكبر لدى الأشخاص المصابين بهذه المتلازمة مما هي عليه عند الأشخاص العاديين مثلما هو الحال في النواة الذيلية (أوالمذنبة) والتي قد يكون لها دور بارز في تسهيل عملية التعلم، ولكنها كذلك قد تؤدي إلى الإصابة بمرض الوسواس القهري.
الوجه المظلم لهذه الحالة
ومثلما قد تسهل متلازمة فرط التذكر حفظ العديد من المهارات وتعلمها، حيث إن المصابين بها يسجلون كل الأحداث بدقة شديدة إلا أن أنها لها وجها آخر غير ذلك الوجه المبهر قد يحولها إلى ابتلاء لمن يصاب بها.
وقد يعبر عن هذا الوجه الآخر ما قالته ريبيكا عما تعانيه عندما تتذكر بعض الأمور التي تصيبها بالأرق والصداع، وتصف كذلك شعورها بأن دماغها مشوشة- خاصة وأنها تعاني من التوحد- عندما تعيش نفس الأحداث مرة أخرى بتذكرها، حتى إن رد فعلها نفسه قد يكون غريبًا، فغذا تذكرت مثلًا حادثة تعرضت لها وهي في سن الثالثة، فهي تتصرف كما لو كانت مازالت في سن الثالثة، حتى إن كانت الآن قد تخطت العشرين عامًا، واصبحت من البالغين.
وهو ما يعبر عن انفصال عمل العقل عن القلب، وهو ما يصيبها بالاضطراب والقلق، ولذلك فإنَّ هذا الجانب المظلم لتلك المتلازمة قد يعرض ريبيكا إلى مشاكل صحية عقلية بسبب هذا القلق والتوتر واللذين قد يصلا إلى حد الاكتئاب فهى تشعر طوال الوقت أنها تعيش داخل آلة زمن تجتر عليها مآسي الماضي.
ولكن ريبيكا تسعى دائمًا لأن تتغلب على ما قد تسببه لها هذه الذكريات من اكتئاب، فتدربت على مساعدة نفسها بالذكريات الإيجابية لمواجهة الذكريات السلبية، فقد اتبعت طريقة لتخطى ذلك فقد قررت أن تختار الذكريات الإيجابية التي مرت بها في مثل نفس التوقيت التي تعيشه الآن في السنوات السابقة.
وربما يستطيع المصابون بهذه المتلازمة من مساعدة المختصين في معرفة ودراسة مراحل عمرية كان يصعب دراستها مثل مرحلة الأطفال حديثوا الولادة، كيف يكتشفون الأشياء وكيف يرونها.. الخ
وقد تحدثت ريبيكا بالفعل عن هذه المرحلة وقالت: إنّ أهم ما كان يلفت انتباهها في أسابيعها الأولى هي تلك المروحة التي كانت تدور بالقرب من سريرها، وكيف أنها كانت تبهرها كما أنها كانت تتذكر أن فكرة القرب منها لاكتشاف كيف تعمل كانت تراودها طوال الوقت، وعندما وصلت إلى عام ونصف من عمرها تمكنت من الاقتراب منها فعلًا ولكنها أسقطتها.
ويمتلك هؤلاء المصابون بتلك المتلازمة قدرة عجيبة على التحكم بأحلامهم حتى إن ريبيكا تقول: إن بإمكانها إبعاد الكوابيس عن مطاردتها، ونادرًا ما قد تتعرض لها حيث إنها تتمكن من تغيير الوقائع المخيفة لتجعلها داخل سياق آخر.
ولكنها تؤكد أنها لم تكن تتمكن من ذلك في طفولتها لأنها بعمر الـ18 شهرعندما بدأت أن تحلم لم يكن في مقدروها التفريق بين الحلم والواقع، وتقول: “هذا ما كان يجعلني أبكي ليلًا طالبة أمي أثناء النوم فلم يكن بقدوري حينها أن أتحدث، وقد يتمكن هؤلاء الأشخاص من تذكر كل تفاصيل أحلامهم بشكل كبير.
وقد ساهمت ريبيكا في مشروع بحثي بجامعة كوينزلاند في كاليفورنيا، على أمل أن تساعد من خلاله مرضى الزهايمر.
وعلى الرغم من قدرتها الفائقة في تذكر كل ما مرّت به من أحداث إلا أنها لا تتذكر لحظة ولادتها، ولعلّه هو الشىء الوحيد الذى لا تتذكره، ولكن ريبيكا لا ترغب في تغيير أي شىء تمر به حتى مع امتلاكها عقلًا بإمكانه تسجيل كل شىء كجهاز كمبيوتر يستدعى أي حدث مرَّت به بكل تفاصيله.
وتبرر ذلك بأن التوحد الذي تعانيه يجعلها لا ترغب بأي تغيير في أي شىء وتقول: “لا أريد إلا الاستمرار بنفس طريقة تفكيري، وكذلك مشاعري كما هى مثلما اعتدت على ذلك منذ صغرى، ولكن ما أريده هو إيجاد وسيلة للتعايش مع هذه الحالة التي ولدت بها فأنا أشعر أنني لست غائبة عن نفسي فأنا نفس الشخص الذي كنت عليه طوال الوقت وأريد الاحتفاظ بذلك”.
اضف تعليقا