العدسة _ منصور عطية

لكل شيء ثمن.. عبارة يراها كثيرون انتهازية لا تراعي كرامة، ولا تلقي بالًا لقيم وأخلاقيات إنسانية، لكنها في عالم اليوم باتت حقيقة دامغة تثبتها الأيام بالوقائع والأدلة.

ليس على مستوى الأفراد والتعاملات الشخصية، بل بين الدول والشخصيات الدولية والمنظمات الكبرى، ولعل هذا ما كشفه الشكر العميق والامتنان الذي أعرب عنه الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” لكل من السعودية والإمارات.

مليار دولار، أو أقل بقليل، كان الثمن الذي دفع الرجل إلى هذا الموقف، بعد أن كان يرى الحرب في اليمن عبثية، وبعد أن وضع التحالف الذي تقوده الدولتان على قائمة سوداء لارتكاب جرائم بحق الأطفال.

غوتيريش له ثمن!

ووفق بيان نشره موقع الخدمات الصحفية للأمم المتحدة، فإن غوتيريش “أعرب عن امتنانه العميق لولي العهد (الأمير محمد بن سلمان)، للوفاء اليوم بالتعهد السخي الذي أعلنته السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في يناير بشأن تقديم 930 مليون دولار لصندوق تمويل العمل الإنساني في اليمن”.

يغطي هذا المبلغ نحو ثلث متطلبات خطة الاستجابة الإنسانية لليمن لعام 2018، والمقدرة بـ2.96 مليار دولار؛ حيث يحتاج أكثر من 22 مليون يمني إلى الإغاثة الإنسانية أو المساعدة في مجال توفير الحماية، بما في ذلك مليونا نازح، بحسب البيان.

وأعرب “غوتيريش” عن أمله في أن “يحذو المانحون الآخرون حذو السعودية والإمارات، ويقدموا مساهمات سخية لخطة الاستجابة الإنسانية في الفعالية رفيعة المستوى لإعلان التعهدات، المقررة في جنيف في الثالث من الشهر المقبل”.

البيان الصادر عن المتحدث باسم الأمم المتحدة، أشار إلى أن الأمين العام وولي العهد السعودي “ناقشا التزامات جميع أطراف الصراع وفق القانون الإنساني الدولي والمتعلقة بحماية المدنيين وبنيتهم الأساسية، والحاجة لضمان الوصول الإنساني في جميع أنحاء اليمن، وإبقاء جميع الموانئ اليمنية مفتوحة أمام السلع والمواد الإنسانية والتجارية”.

ورغم أن الإشارة هنا واضحة إلى حالة الحصار التي يفرضها التحالف على اليمن، خاصة إغلاق ميناء الحديدة أمام المساعدات الإنسانية، إلا أن البيان لم يُشر من قريب أو بعيد إلى دعوة أو طلب من قبل الأمين العام لابن سلمان، بل جاء الحديث في إطار مناقشات ثنائية فقط.

ورغم هذا لم ينس غوتيريش التذكير بالحاجة إلى “التوصل لتسوية سياسية يتم التفاوض عليها عبر حوار يمني-يمني جامع”.

اللافت أن هذا الشكر الذي وجهه الأمين العام ليس الأول من نوعه، بل سبقه في يناير الماضي، عندما أرسلت السعودية 5 ناقلات تحمل 180 ألف لتر من الوقود إلى مدينة مأرب.

حرب عبثية ولائحة سوداء

المثير أن ما وصفه “غوتيريش” في البيان السابق بـ”الصراع” في حضرة ابن سلمان، سبق أن وصفه بـ”الحرب العبثية” قبل أشهر معدودة من الآن.

ففي ديسمبر الماضي، قال في تصريحات متلفزة: “أعتقد أنها حرب عبثية، أعتقد أنها حرب ضد مصالح السعودية والإمارات وشعب اليمن”، داعيا إلى إنهائها فورًا.

وفي حين تحدث خلال لقاء ابن سلمان عن ضرورة إبقاء جميع الموانئ اليمنية مفتوحة أمام المساعدات الإنسانية، أعرب في تلك التصريحات عن آماله في أن يرفع التحالف حصاره على مرافئ اليمن ومطار صنعاء بعد إغلاقها منذ أن أطلق الحوثيون صاروخا صوب مطار الرياض في 4 نوفمبر الماضي.

قبلها بأقل من شهر، طالب “غوتيريش”، السلطات السعودية برفع الحصار الذي تفرضه على اليمن، وفتح جميع موانئه البحرية والجوية والبرية بشكل عاجل.

وقال “استيفان دوجريك”، المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة: إن الأخير “يشعر بخيبة الأمل والإحباط إزاء استمرار معاناة الشعب اليمني، ويؤكد أننا بحاجة إلى محاسبة المسؤولين عنها”.

ووجه الأمين العام رسالة إلى المندوب السعودي الدائم لدى الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي، حذر فيها من أن “هذا الحصار يعيد جهود إغاثة اليمنيين للوراء”، وردا على أسئلة بشأن اعتبار الحصار جريمة ضد الإنسانية، قال المتحدث: “هناك حاجة ماسة للمحاسبة على ما يحدث. قلوبنا تنفطر على مشاهد الشعب اليمني، هذه حرب غبية. إننا نشهد مأساة من صنع الإنسان”.

الأكثر من ذلك، أن الأمم المتحدة أدرجت في أكتوبر الماضي التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن على لائحة سوداء سنوية للدول والكيانات التي ترتكب جرائم بحق أطفال.

وأحصى تقرير المنظمة خلال عام 2016 ما لا يقل عن 4 آلاف حالة من الانتهاكات المثبتة من جانب قوات حكومية (التحالف) وأكثر من 11500 حالة منسوبة إلى مجموعات مسلحة غير حكومية (الحوثيون).

ومن غير أن يذكر السعودية تحديدا، أشار “غوتيريش” إلى أن “أكثر من 8 آلاف طفل قتلوا أو شوهوا في صراعات عام 2016” في “هجمات غير مقبولة”.

وجاء في تقريره: “في اليمن، تسببت أعمال التحالف في العام 2016، خلال هجمات على مدارس أو مستشفيات، بسقوط 683 ضحية من الأطفال خلال 38 هجوما تم التثبت منها”.

وتصنف الأمم المتحدة الأزمة في اليمن بصفتها أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، إذ تقدر وجود حوالي 17 مليون يمني بحاجة للغذاء، يعاني 7 ملايين منهم خطر المجاعة فضلا عن وباء الكوليرا الذي قتل فيه أكثر من 2000 شخص.

بعيدا عن اليمن لكن في السياق ذاته، أعلن “غوتيريش” في أكتوبر الماضي، أن 4 دول فقط في العالم – من بينها السعودية – تنفذ 87 % من إجمالي أحكام الإعدام، داعيا إلى التخلي عن هذه “الأساليب البربرية”.

فاشل ومتخبط باعتراف السعودية

وكما كان للأمين العام موقف مناهضة للسعودية، قبل أن يصبح الطرفان سمنا على عسل، فإن الرياض هاجمته بشدة في وقت تصريحاته المنتقدة لأدائها في الملف اليمني.

فبعد تقريره عن أطفال اليمن وتصريحاته بشأن أحكام الإعدام، شنت وسائل الإعلام السعودية الرسمية حملة هجومية غير مسبوقة ضد الأمين العام للأمم المتحدة، واصفة إياه بأنه كان فاشلا في إدارة شؤون بلاده، وأن وصوله إلى منصبه “خطيئة دولية لا تغتفر”.

وقالت صحيفة “سبق” الإلكترونية ذائعة الصيت إنه “لم يعد سرًّا التخبُّط السياسي الذي يعانيه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش؛ إذ كشفت العديد من المواقف والأزمات، أن وصوله لهذا المنصب كان خطيئة دولية لا تغتفر، وقد تؤدي تلك التخبطات إلى إطلاق رصاصة الرحمة على المنظمة السبعينية التي عانت الوهن كثيرا، وسقطت منذ أن وقعت تحت سلطة الأمين العام غريب الأطوار”.

صحيفة “عكاظ” نشرت في إحدى المقالات أن “الأمم المتحدة تحولت إلى منظمة الكذب والكذب والافتراءات، بسبب سياسات سكرتيرها العام أنطونيو غوتيريش، الذي أحالها بفعل ضعف شخصيته وتوجهاته الخرقاء وانحيازاته، إلى هيئة للتضليل والدجل..”.

من يدفع أكثر؟

وهكذا يظهر للجميع كيف أن طرفي تلك العلاقة المريبة اتحدا ضد الطرف الضعيف وهو الشعب اليمني المسحوق بويلات الحرب المدمرة.

فالسعودية التي أوقفت هجوما ضاريا على الأمين العام للأمم المتحدة، دفعت مبالغ طائلة من أجل شراء صمته على ما يحدث في اليمن، ورغم أن التحالف هو المسؤول الأول عما وصلت إليه الأوضاع الإنسانية في البلاد – باعتراف الأمين العام – إلا أن ما تقدمه من مساعدات يقابَل بعاصفة من الشكر والامتنان.

ويبدو أن الشكر ليس على المساعدات الإنسانية، لكنه على رائحة شراء الذمم التي تفوح في الأمر وفق المعطيات السابقة، ومساهمة المال السعودي والإماراتي في أن يتحول هذا المنصب الرفيع إلى مرتزق يبيع مواقف لمن يدفع أكثر.