العدسة – منصور عطية

لم يمض أسبوع واحد على وعود باستثمارات مليارية سعودية في الولايات المتحدة الأمريكية لدى زيارة ولي العهد محمد بن سلمان للبلاد، إلا وأُثير مجددًا الجدل حول قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب المعروف اختصارًا باسم “جاستا”، والذي يتهم المملكة بالمسؤولية عن هجمات 11 سبتمبر 2001، ويطالبها بتعويضات.

فهل يدفع هذا التطور ابن سلمان إلى تسديد المزيد من الفواتير التي تسعى لتجنيب بلاده ويلات الغضب الأمريكي، أم يستخدم ما بيده من أوراق القوة وعوامل الضغط وينجح في وقف الابتزاز؟

الحياة تدبّ في “جاستا”

قبل يومين، رفض قاضٍ أمريكي طلب السعودية إسقاط دعاوى بالولايات المتحدة تتهم المملكة بالمساعدة في التخطيط لهجمات 11 سبتمبر، وتطالبها بتعويضات للضحايا، الذين بلغ عددهم نحو 3 آلاف قتيل.

وقال القاضي “جورج دانيالز”: إن مزاعم رافعي الدعوى “توفر أساسًا معقولًا” له لتأكيد الاختصاص بنظر الدعاوى بموجب قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب الصادر في عام 2016.

ورغم ذلك، رفض “دانيالز” مزاعم مقدمي الشكوى ضد بنكين وشركة بناء سعودية تتهم الثلاثة بتقديم دعم مادي لتنظيم القاعدة وزعيمه الراحل “أسامة بن لادن” لتنفيذ الهجمات، بدعوى عدم الاختصاص.

هذا الطلب السعودي يعود إلى أغسطس من العام الماضي، عندما طالبت الرياض قاضيًا أمريكيًا برفض 25 دعوى قضائية تتهم المملكة بالتورط في الهجمات؛ حيث تطالب عائلات نحو 2500 من القتلى وأكثر من 20 ألفًا من المصابين ومؤسسات وشركات تأمين مختلفة بالحصول على مليارات الدولارات من السعودية.

وقالت المملكة في أوراق قدمت للمحكمة الجزئية الأمريكية في مانهاتن إن “مقيمي الدعاوى لا يمكن أن يبرهنوا على أن المملكة أو أي منظمة خيرية تابعة لها مسؤولة عن الهجمات”، وقالت أيضًا إنها تستحق الحصانة السيادية، بحسب ما نشرته رويترز.

المحامي “جيمس كريندلر” ممثل أسر الضحايا قال: “هذا ما توقعناه.. لدينا كثير جدًا من الاتهامات لما فعله الكثير من السعوديين ومنظمات خيرية تابعة للدولة.. السعودية لا تستطيع الاختباء من الحقائق”.

وسبق الطلب تطور لافت في مسار القضية، وفق التقرير الذي نشره موقع “ميدل إيست آي”، وكشف أن أسر ضحايا هجمات 11 سبتمبر 2001 تسعى لمقاضاة الإمارات.

محامو الضحايا يستندون في قضاياهم إلى ما ورد في تقرير لجنة التحقيق الخاصة بالهجمات، الذي أظهر أن مواطنَيْن إماراتيين كانا ضمن المهاجمين التسعة عشر، كما تمت الإشارة إلى الإمارات أكثر من 70 مرة في ثنايا التحقيقات.

التحقيقات أظهرت أيضًا أن منفذي الهجمات سافروا عبر الإمارات في طريقهم إلى الولايات المتحدة، ورصدت مبالغ مالية حُوّلت عبر بنوك إماراتية لصالح المنفذين.

محامو ضحايا الهجمات قالوا في التقرير: إن الدعم الإماراتي المزعوم لتنظيم القاعدة أُثير في الدوائر القانونية في نيويورك ضمن سياق الأزمة الخليجية، مما دفع أسر الضحايا إلى مناقشة اتخاذ إجراءات قانونية ضد أبو ظبي.

المحامون ربطوا كذلك بين تحرك أسر ضحايا هجمات 11 سبتمبر، وتسريبات البريد الإلكتروني لسفير الإمارات في واشنطن “يوسف العتيبة”، ففي إحدى الرسائل المسربة يحذر “العتيبة” أعضاء في مجلس الشيوخ من أن الدول المهدّدة بقانون “جاستا” ستتراجع عن تعاونها الاستخباري مع الولايات المتحدة.

تهديدات سفير الإمارات تزامنت مع ما تم تداوله في ذلك الوقت عن تحريك محكمة أمريكية دعوى قانونية ضد بنك إماراتي بتهمة تقديم خدمات مالية لتنظيم القاعدة “عن سابق قصد وعلم”، وفق التقرير.

كما كشفت مراسلات “العتيبة” عن تضافر جهود السعودية والإمارات داخل أروقة القرار الأمريكية للضغط من أجل عدم تمرير قانون “جاستا”، تلك المعلومة تحديدًا أظهرت للمحامين أن خطوات الإمارات لدرء تمرير القانون دليل على أن هناك ما تخشاه أبو ظبي ولا تريد له أن يُكشف.

حسابات الأمير الخاطئة

التزامن اللافت بين التطور الأخير وزيارة ابن سلمان للولايات المتحدة، شديد الرمزية وله دلالات كثيرة، حتى لو قيل إن موعد جلسة المحكمة كان معدًّا سلفًا دون ارتباط بالزيارة.

“ابن سلمان”، كشف خلال اللقاء الذي جمعه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن تدشين خطة استثمارات بين المملكة والولايات المتحدة بإجمالي 200 مليار دولار، مشيرًا إلى أنه تم بالفعل تنفيذ 50 % من الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة بين البلدين.

وقال ترامب خلال اللقاء: “شرف لنا أن نستضيف ولي العهد السعودي والوفد المرافق له، الذي أعرف الكثير منهم.. العلاقة (بين البلدين) في أقوى درجاتها على الإطلاق ونفهم بعضنا البعض”.

وفي كلمات شديدة الرمزية والإيحاء، أضاف لدى استقباله وفد المملكة: “السعودية بلد ثري جدًا وستعطي الولايات المتحدة بعضًا من هذه الثروة، كما نأمل، في شكل وظائف وشراء المعدات العسكرية”.

المثير أن تلك الصفقة الجديدة تأتي بعد أقل من عام على الصفقة التاريخية التي أعلنها ترامب، أثناء زيارته للسعودية مايو الماضي، بقيمة تجاوزت 400 مليار دولار بينها 110 مبيعات أسلحة.

هنا تتجلى الحسابات الخاطئة لولي العهد السعودي، الذي ربما ظن أن تسديد تلك الفواتير على شكل صفقات سلاح واستثمارات مباشرة، سوف يقضي للأبد على أية آمال لمحاسبة المملكة بتهمة التورط في هجمات 11 سبتمبر.

هذه الأخطاء لن تكون الأخيرة بعد أن دبّت الحياة مجددًا في قانون جاستا، لكنها مجرد بداية على ما يبدو لمزيد من الخطوات المتراجعة من قبل السعودية بالمزيد من الصفقات المليارية لتجنب الأسوأ في حال نجحت القضايا المرفوعة في إلزامها بالتعويضات.

فهل يكتفي “ابن سلمان” بما سدده ويتمكن من إقناع ترامب، أم أنه سيقدم على دفع المزيد من الفواتير بأرقام لا يراها ترامب سوى “فتات” لدى آل سعود؟.

أوراق ضغط .. هل تستغلها السعودية؟

لكن في مقابل تلك الصورة المأساوية التي ترسم في النهاية- ربما- اضطرارا سعوديا إلى دفع تعويضات ضخمة، فإن الرياض تملك أوراق ضغط وعوامل قوة كثيرة يمكن أن تستخدمها مقابل الابتزاز الأمريكي.

أول تلك الأوراق، مبدأ المعاملة بالمثل وسن تشريعات تسمح لضحايا الهجمات الأمريكية في العديد من البلدان مثل باكستان وأفغانستان والعراق واليمن والصومال وغيرها، إلى مقاضاة أمريكا، الأمر الذي يضع الولايات المتحدة في موقف لا تُحسد عليه.

ولعل إثبات الأخطاء الأمريكية في قصف مدنيين خلال العمليات العسكرية أيسر بكثير من إثبات تورط السعودية في أحداث 11 سبتمبر، وليس أدلّ على ذلك من اعترافات واشنطن في وقائع كثيرة بقصف مدنيين “عن طريق الخطأ”.

المجال الثاني الذي يمكن أن تتحرك فيه السعودية لمواجهة التصعيد في قانون جاستا، هو بيع الأصول وسندات الخزانة التي تمتلكها في أمريكا، والتي تقدر مجتمعة بنحو  تريليون دولار، فضلًا عن استثمارات أخرى تقدر بمئات المليارات.

كما يمكن للمملكة أن تتراجع عن إتمام الصفقتين الأخيرتين (مجموعهما يتخطى 600 مليار دولار)، في خطوة تصعيدية قد يكون لها أبلغ الأثر في ممارسة مزيد من الضغوط على الولايات المتحدة لوقف المضي قدمًا في القانون.

وكما هدد السفير الإماراتي في واشنطن، كما سبق تبيانه، فإن السعودية قد تهدد بوقف التعاون الأمني والاستخباراتي مع أمريكا، فضلا عن إغلاق المجال الجوي السعودي أمام النشاط العسكري الجوي الأمريكي، الأمر الذي لا يمكن معه حصر خسائر الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب.

على الجانب الآخر، فإن إقدام السعودية على مثل تلك الخطوات ولو بصفة تهديدية من شأنه أن يضعها منفردة في مواجهة عدوها اللدود إيران، بدون دعم أمريكي تعول عليه الرياض كثيرًا في صراعها التاريخي مع طهران.

أبرز ملامح جاستا

ولعل الغرض الأساسي من قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب “جاستا” هو توفير أوسع نطاق ممكن للمتقاضين المدنيين تماشيًا مع دستور الولايات المتحدة للحصول على تعويض من الأشخاص والجهات والدول الأجنبية التي قامت بتقديم دعم جوهري سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لأفراد أو منظمات تعتبر مسؤولة في أنشطة إرهابية ضد الولايات المتحدة.

وبحسب مادته الثالثة، فلن تكون هناك دولة أجنبية محصنة أمام السلطات القضائية الأمريكية في أي قضية يتم فيها المطالبة بتعويضات مالية من دولة أجنبية نظير إصابات مادية تلحق بأفراد أو ممتلكات أو نتيجة لحالات وفاة تحدث داخل أمريكا وتنجم عن فعل إرهابي أو عمليات تقصيرية أو أفعال تصدر من الدول الأجنبية أو من أي مسؤول أو موظف أو وكيل بتلك الدولة أثناء فترة تولّيه منصبه بغض النظر إذا كانت العمليات الإرهابية تمت أم لا.

ومنح القانون المحاكم الأمريكية حق وقف الدعوى ضد أي دولة أجنبية إذا ما شهد وزير الخارجية بأن الولايات المتحدة تشارك بنيةٍ حسنة مع الدولة الأجنبية المدعي عليها بغية التواصل إلى حلول للدعاوى المرفوعة على الدولة الأجنبية أو أي جهات أخرى مطلوب إيقاف الدعاوى المرفوعة بشأنها.

ووفقًا للمادة (4) من القانون فإنه تم بشكل عام تعديل الفصل (2333) من المادة (18) من القانون الأمريكي الخاصة بالحصانة السيادية للدول الأجنبية بإضافة النص التالي “يؤثر التعديل الذي تم في هذه المادة على حصانة الدول الأجنبية تحت أي قانون آخر”، وذلك حسب تعريف هذا التعبير الوارد بالمادة 1603 من الباب (28) من القانون الأمريكي.