العدسة _ منصور عطية
يسير الفلسطينيون في قطاع غزة بخطى ثابتة على طريق إيصال صوتهم للعالم، الصوت الذي يرفض التنازل عن حق العودة إلى ديارهم التي هُجِّروا منها قبل 70 عاما، وهو الصوت ذاته الذي يصرخ في وجه مخططات الاحتلال الإسرائيلي ومعسكره، سواء كانوا عربًا أو عجمًا.
“صفقة القرن”، هذا المصطلح الغامض الذي يعبر عن أضخم خطة لتصفية القضية الفلسطينية يبدو أنه وجد أخيرًا من يقف في وجهه بانتفاضة جماهيرية واسعة، تتجاوز حالة الانقسام الداخلي، بحراك يرتبط ارتباطا وثيقا بأبرز أهداف هذه الصفقة، والمتمثل في إلغاء حق العودة.
فهل تنجح غزة في إفشال “صفقة القرن”؟ وما هي البدائل التي يمكن أن يلتجئ إليها معسكر الصفقة من أجل إتمامها؟.
حدود غزة تغلي!
30 فلسطينيًّا حصيلة الشهداء حتى الآن، فضلًا عن أكثر من 2500 مصاب على مدار جمعتين اشتعلت فيهما مسيرات حق العودة على حدود قطاع غزة، وقابلها الاحتلال بالرصاص الحي.
وخلال الجمعتين تدفق آلاف الفلسطينيين على المنطقة المحاذية للحدود بين غزة والأراضي المحتلة، واندلعت اشتباكات في عدة مناطق، أشعل متظاهرون خلالها إطارات السيارات، ورشقوا بالحجارة والزجاجات الفارغة العربات العسكرية المصفحة، بينما رد جيش الاحتلال بإطلاق النار وقنابل الغاز المسيل للدموع، وحذر من أنه “سيرد بكل ما يلزم في عمق غزة، ولن يسمح بالمساس بالسياج الأمني على الحدود”.
وتزداد الحاجة للأدوية والمستلزمات الطبية بغزة، في ظل قمع جيش الاحتلال اليومي لمسيرات سلمية تخرج على حدود القطاع، منذ نهاية أبريل الماضي، إحياء لـ”يوم الأرض”، وللمطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي هُجِّروا منها عام 1948.
وبدأت مسيرات العودة الكبرى، في 30 مارس الماضي، بمشاركة قرابة مائتي ألف فلسطيني في خمس مظاهرات كبرى (شرق رفح، وخزاعة في خان يونس، والبريج في الوسطى، والشجاعية بغزة، وجباليا شمال القطاع)، تحولت إلى مخيمات واعتصامات مفتوحة على مقربة من السياج الحدودي الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المحتلة منذ عام 1948.
على الجهة المقابلة، سيطرت حالة من التربص والقلق في أوساط الاحتلال، فتدرجت ردود أفعالهم على المسيرات بين التعامل الأمني بقتل العشرات، وبث دعايات مضادة تهدف إلى خفض التعاطف الدولي مع مطالب الفلسطينيين.
تلك الدعايات كان أبرزها اتهام المتظاهرين بأنهم مجرد مأجورين يحصلون على رواتب شهرية من قيادات حركتي حماس والجهاد، فضلا عن اتهامهم بشن حرب على البيئة، من خلال حرق إطارات السيارات، وما تسببه الأدخنة من تلوث بيئي.
هل ينجح الغَزِّيُّون؟
“إنهم يبتكرون طرقًا جديدة وحيوية لانتفاضة من نوع آخر، وإستراتيجية تهدف إلى تسخين الحدود؛ لإلغاء “صفقة القرن”، والتعكير على سياسة التقارب بين الدول العربية وإسرائيل”.. هكذا علق الخبير الإسرائيلي في شؤون الإعلام والأمن “يوني بن مناحيم” على مسيرات العودة.
وقال الخبير: “ربما تعد هذه المسيرات وجهًا جديدًا من إستراتيجية المقاومة الفلسطينية بعد انتفاضات الحجارة والسكاكين والسلاح الناري، وقد أتى الدور اليوم على انتفاضة الجماهير المحتشدة من خلال مظاهرات ذات طابع سلمي، وبذلك ارتدت الفصائل الفلسطينية زيًّا جديدًا من الثورة الشعبية”.
ووفق تقديرات الخبير الإسرائيلي، فإن وضع مزيد من العقبات والعراقيل أمام مخطط تمرير “صفقة القرن” يبدو الهدف الأكبر من تحركات الفلسطينيين، على اعتبار أن تمرير الصفقة يستلزم حالة من الهدوء والاستقرار على حدود قطاع غزة، سواء كانت مع مصر أو مع الأراضي المحتلة.
وبالتالي، فإن مجرد تأخير تنفيذ الصفقة في تلك المرحلة العصيبة، ونحن مقبلون على ذكرى النكبة وما يخطط فيها من نقل للسفارة الأمريكية إلى القدس، يعد في حد ذاته إنجازًا شعبيًّا فلسطينيًّا، يتجاوز القادة والزعماء الذين يرزحون في آتون الخلافات والانقسام.
والفلسطينيون هنا، ربما لا يقفزون فوق تلك الخلافات فقط، بل يضعون خارطة طريق للقادة نحو الوحدة وإنهاء الانقسام، وليس أدل على ذلك من اختفاء أية مشاهد تفرق بين الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية أو توجهاتهم الفكرية، فلا علم غير علم فلسطين، ولا شعارات غير حق العودة.
وليس ببعيد عن التصريحات المثيرة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حول التطبيع مع إسرائيل، فإن انتفاضة الغَزِّيِّين تعكر كثيرا صفو هذه العلاقة المريبة وغيرها بين الاحتلال وأقطار عربية؛ لما تسببه من إحراج كبير لتلك الأنظمة والحكومات، فبينما يمدون أيديهم لإسرائيل، تمسك يدها الأخرى بالسلاح لتقتل المتظاهرين السلميين.
ومن بين الأهداف التي تحققها مسيرات العودة، رجوع القضية الفلسطينية برمتها إلى أجندة السياسة الإقليمية والدولية، وصرف أنظار العالم تجاه معاناة الفلسطينيين، فضلًا عن إعادة طرح موضوع حصار غزة والأزمة الإنسانية فيها من جديد على صدارة الاهتمام العالمي.
ولعل تلك التحركات تتزامن مع التهديدات التي أطلقها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، قبل أسابيع، بفرض مزيد من الإجراءات العقابية ضد قطاع غزة؛ ردًّا على محاولة اغتيال رئيس الحكومة رامي الحمدالله، وهو ما يحول دون تنفيذ السلطة لتلك التهديدات.
لكن يبقى الرهان في إمكانية نجاح مسيرات العودة في عرقلة “صفقة القرن” تحديدًا، على بقاء جذوة الانتفاضة مشتعلة إلى أطول فترة ممكنة، ربما حتى بعد حلول ذكرى النكبة وقيام دولة إسرائيل منتصف مايو المقبل.
بدائل معسكر الصفقة
ولم تقف إسرائيل متفرجة على ما يحدث، بل سعت إلى المضي قُدمًا نحو مخططها في تمرير الصفقة، مستعينة بحلفائها الإقليميين في هذه المرحلة، وربما تتصاعد تحركاتها مع اشتعال الانتفاضة على نحو أكبر وأكثر اتساعًا.
ومن بين تلك التحركات، اللقاء الذي جمع اللواء عباس كامل، مدير جهاز المخابرات العامة المصري، ومدير مكتب الرئيس عبدالفتاح السيسي، برئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي “الشاباك” نداف أرغمان، قبل أيام.
الإذاعة الإسرائيلية، قالت: إن “أرغمان” نقل عبر المسؤول المصري رسالة إلى حركة حماس، حذرها فيها من المساس بالجدار الأمني الفاصل بين غزة وفلسطين المحتلة واستمرار الاستفزازات”، على حد تعبيره.
هذا ما أُعلن، لكن المؤكد أن ما خفي أعظم، حيث يرجح أن تنسحب تلك التهديدات على ضرورة أن تمارس مصر مزيدًا من الضغوط على حماس من أجل القبول بالأمر الواقع، والمضي قدما في طريق المصالحة الفلسطينية كمدخل لتهدئة الأوضاع، ومن ثم تمرير “صفقة القرن”.
ويبقى أن السيسي هو أول من تحدث عن “صفقة القرن” في تصريح أدلى به خلال زيارته إلى أمريكا ولقائه نظيره دونالد ترامب، في أبريل الماضي، حينما قال له: “ستجدني بكل قوة ووضوح داعمًا لأية مساعٍ لإيجاد حل للقضية الفلسطينية في “صفقة القرن”، ومتأكد أنك تستطيع أن تحلها”.
إسرائيل، ومن ورائها أمريكا، تبدو مصرة على تنفيذ الصفقة، وتعبر عن ذلك مرارًا وتكرارًا، ففي مارس قالت للسفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة “نيكي هايلي”: إن “اقتراح خطة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين اكتمل تقريبًا”.
وفي فبراير أبلغ مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط “جيسون جرينبلات”، قناصل دول أوروبية معتمدين في القدس، بأن “صفقة القرن”، “في مراحلها الأخيرة”، ونقلت تقارير إعلامية عن أحد المشاركين في اللقاء -دون ذكر اسمه- أن “جرينبلات” في معرض حديثه عن “صفقة القرن” أكد للمسؤولين الأوروبيين أن “الطبخة على النار، ولم يبق سوى إضافة القليل من الملح والبهارات”، على حد تعبيره.
الحديث عن “صفقة القرن” يعود إلى عام 2010، حين أنهى مستشار الأمن القومى الإسرائيلي السابق، اللواء احتياط “جيورا أيلاند”، عرض المشروع المقترح لتسوية الصراع مع الفلسطينيين، في إطار دراسة أعدها لصالح مركز “بيجين-السادات” للدراسات الإستراتيجية، بعنوان: “البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين”.
الدراسة التي نشرت تفاصيلها تقارير إعلامية في حينه، تقوم على اقتطاع 720 كيلومترًا مربعًا من شمال سيناء للدولة الفلسطينية المقترحة، تبدأ من الحدود المصرية مع غزة، وحتى حدود مدينة العريش، على أن تحصل مصر على مساحة مماثلة داخل صحراء النقب الواقعة تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، بينما تخلو الضفة الغربية بالكامل للاحتلال.
اضف تعليقا