العدسة _ منصور عطية

من جديد، عادت قضية حراك الريف المغربي إلى دائرة الأضواء، تزامنا مع محاكمة زعيمه “ناصر الزفزافي”، بتهمة الدعوة للانفصال عن المغرب، وقيادة احتجاجات تمس أمن الدولة.

المثير أن المحاكمة تأتي في خضم تفجر الأوضاع بمدينة “جرادة” المغربية، على خلفية حراك سياسي واقتصادي واجتماعي سببته أوضاعًا بائسة يحياها الأهالي.

الزفزافي يكشف الجميع

بعد نحو عام على اعتقاله مثل “الزفزافي” (39 عامًا)، أمام غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف في الدار البيضاء، حيث اتهم الشرطة بتحريف أقواله معتبرًا محاكمته “سياسية بامتياز”، كما نفى اتهامه بالسعي إلى الانفصال عن الدولة المغربية.

واعتقلت السلطات المغربية “الزفزافي” بعدما قاطع خطبة جمعة معادية لحركة الاحتجاجات التي تعرف بـ”حراك الريف”، والتي هزت المنطقة الواقعة في شمال البلاد العام الماضي.

الشاب الذي أصبح عاطلًا عن العمل بعدما عمل حارسًا ليليًّا ثم صاحب متجر صغير لبيع الهواتف النقالة، وتميّز بموهبة مخاطبة الحشود وبنبرته الحادة ونظراته الغاضبة التي جعلته يصبح رمز الحراك وقائده، يلاحق اتهامات ثقيلة تصل عقوبتها إلى الإعدام من بينها “المساس بأمن الدولة” و”التحريض ضد الوحدة الترابية” للبلد.

تدخل هذه المحاكمة مراحلها الأخيرة بالاستماع إلى “الزفزافي” قبل مثول آخر المتهمين فيها، وهو “نبيل أحمجيق” الذي يوصف بالرجل الثاني في الحراك، بينما جرى الاستماع طوال الأسابيع الماضية لأكثر من 50 معتقلًا.

وكانت الحكومة المغربية أعلنت في وقت سابق إطلاق مشاريع إنمائية والتسريع بإنجاز أخرى تجاوبًا مع مطالب الحراك، كما تم إعفاء وزراء ومسؤولين كبار، اعتبروا مقصّرين في تنفيذ تلك المشاريع.

وتراجع زخم الحراك كثيرًا إثر اعتقال قادته ونشطائه الذين تقدر منظمات حقوقية عددهم  بحوالي 450 فردًا، لكن السلطات تؤكد مسؤولية متهمين عن أعمال عنف أدت إلى إصابة أكثر من 900 عنصر من قوات الأمن.

المثير! أن تجدد الحديث عن حراك الريف يأتي بالتزامن مع اشتعال أزمة مشابهة في مدينة “جرادة” الواقعة شمال شرق البلاد، إثر وفاة شقيقين في منجم للفحم كانا يعملان فيه، كما توفي شخص ثالث بعد ذلك بأسابيع.

ويقول النشطاء إن العشرات توفوا في ظروف مزرية لاستخراج الفحم بطريقة عشوائية من مناجم أعلنت الدولة نضوبها عام 1998 وإغلاقها، فيما يطالب سكان جرادة ببديل اقتصادي عن إغلاق مناجم الفحم التي تعتبر مصدر رزقهم الأساسي.

وردًّا على اعتقال السلطات المغربية 4 ناشطين، دعا قادةُ الحراك الاجتماعي في جرادة إلى تصعيد الاحتجاجات والدخول في إضراب عام.

أصل الأزمة وبداية الحراك

تشهد منطقة الريف، شمال المغرب، اضطرابات وغضبًا شعبيًّا مستمرًّا منذ أوخر 2016، وكانت شرارة الغضب الأولى مقتل بائع السمك، محسن فكري، مطحونًا في شاحنة نفايات، عندما أراد استعادة سلعته التي صادرتها الشرطة منه.

بادرت السلطات المغربية إلى التهدئة واحتواء الحادث الفظيع، فأرسلت وزراء وكبار المسؤولين، إلى مدينة الحسيمة، وأصدرت المحاكم إدانات في حق الضالعين في مقتل فكري، ولكن يبدو أن الأمور كانت قد أفلتت من يد المسؤولين، وعائلة الضحية.

وتبنى الشارع القضية، في مسيرات ومظاهرات تجاوزت مطالب القصاص والعدالة، إلى العزلة والبطالة والفقر والخدمات الاجتماعية التي تفتقر إليها منطقة الريف، التي تعد من أفقر المناطق في المغرب.

وحاول العاهل المغربي الملك محمد السادس فك العزلة عن الريف، إذ أعلن مشاريع لتطوير شمال البلاد، وقرب منه مسؤولين من المنطقة، ولكن يبدو أن الاستثمارات التي أعلن عنها اقتصرت على المدن الكبيرة ولم تصل إلى القرى والمناطق الأكثر عزلة.

وشهدت منطقة الريف على مر السنين هجرة عدد متزايد من أبنائها؛ لعدم توفر أسباب المعيشة في منطقتهم، على الرغم من ازدهار وتطور العديد من المدن المغربية الأخرى واستفادتها من البنى التحتية والخدمات الاجتماعية والاقتصادية، مثل الدار البيضاء والرباط وحتى طنجة.

وأمام هذه الضغوط والأوضاع الصعبة، أمسك الشباب في الحسيمة بحادث مقتل واحد منهم في ظروف مأساوية، للتعبير عن غضبهم وتوصيل مطالبهم إلى أعلى سلطات البلاد.

وكان ناصر الزفزافي، الشاب العاطل عن العمل، يتحدث باسمهم ويعبر عن معاناتهم، وهو يقاطع خطيب الجمعة في مسجد مدينته، ليتحدث عن ظروف المعيشة الصعبة والبطالة والفقر وغيرها من الآفات التي يعاني منها أهل الريف.

خصوصية الريف

الريف منطقة في شمال المغرب تتميز بجبالها الوعرة وقممها الشاهقة وغطائها النباتي الكثيف، وهو موطن جزء هام من الأمازيغ يُسمّون “ريافة” ويتحدثون “تريفيت” (أحد الفروع الثلاثة للغة الأمازيغية بالمغرب)، كما تقطن جزأه الغربي مجموعات قبلية عربية تُدعى “جبَالة”.

خضع الريف كباقي مناطق وسط المغرب للحكم الروماني ولإماراته ومنها موريتانيا الطنجية، وخلال الفتح الإسلامي خضع الريف للخلافة الأموية في الأندلس، وشارك الأمازيغ بفعالية في الفتوحات الإسلامية، ومن أعلامهم في هذا الباب الفاتح “طارق بن زياد”.

وفي الفترة الحديثة والمعاصرة، وقع الريف تحت الاستعمار الإسباني، وقاد “محمد عبدالكريم الخطابي” ثورة شرسة ضد الإسبان وهزمهم في معركة أنوال (1921)، وأعلن تأسيس جمهورية الريف.

تحالف الإسبان والفرنسيون ضد الخطابي وأرغموه على الاستسلام بعد معارك طاحنة تلتها مفاوضات عسيرة جرت في وجدة وأبدت فيها القوى الاستعمارية صرامة شديدة تجاه الخطابي ورفضت أي تنازل، فاضطر “الخطابي” إلى الاستسلام، واعتُقل ونُفي إلى جزيرة لارينيون الفرنسية، ثم سُمح له بالعودة إلى مرسيليا عام 1947 فتمكن من الفرار إلى مصر واستقر بها إلى أن تُوفي عام 1963.

واستخدمت قوات الاحتلال التي هاجمت قوات “الخطابي” الغازات السامة التي ما زال شمال المغرب يعاني من آثارها إلى اليوم، إذ تسجل في المنطقة أعلى نسب الإصابة بالسرطان في البلاد.

في أعقاب استقلال المغرب عن فرنسا عام 1956، قامت حركة احتجاجية في الريف اختلفت التحليلات بشأن أسبابها بين من قال إنها نادت بتحسين الأوضاع المعيشية وإصلاح الإدارة وتمكين أهل الريف من حكم ذاتي، ومن قال إنها طالبت بإنشاء جمهورية مستقلة.

ورد النظام المغربي بقمع الانتفاضة قمعًا شديدًا قاده ولي العهد آنذاك الأمير مولاي الحسن (الملك الحسن الثاني لاحقًا) والجنرال محمد أوفقير، الذي حاول الانقلاب على حكم الحسن الثاني عام 1972 بإسقاط الطائرة الملكية في الجو.

ويفتخر أهل الريف أيضًا بوقوفهم في وجه السلطة، إذ تعد مدينة الحسيمة مركز الاحتجاجات التي تعرف “بانتفاضة الخبز” عام 1984، وكانت الحسيمة أيضًا المدينة الوحيدة التي وقع فيها قتلى في احتجاجات 2011.

مصادر الدخل الرئيسية في الريف هي الأموال التي يرسلها المهاجرون إلى أهاليهم، وأموال التهريب، ويعتقد أن مساحات شاسعة تزرع اليوم بالقنَّب الهندي (الحشيش) في الريف من قبل 800 ألف شخص، ويتسلل نحو 50 ألف شخص من سكان الريف إلى مدينتي سبتة ومليلة التابعتين إداريًّا لإسبانيا في رحلات تهريب تشمل المخدرات والسلع الاستهلاكية وغيرها من المواد، مثل الملابس والخمور، والتبغ.