ربى الطاهر

برغم كل ما اشتهرت به اليابان من انخفاض معدلات الجريمة فيها عن مختلف الدول على المستوى العالم، بالإضافة إلى شهرة شعبها كذلك بالجدية والالتزام، فإن وسائل الإعلام  اليابانية أظهرت وجهًا آخر لبعض التغيرات الاجتماعية التي قد طُرحت للمناقشة في الآونة الأخيرة؛ حيث أثارت قضية التحرش الجنسي ضجة كبيرة استدعت وقفة لمناقشتها.

وربما كانت واقعة تلك الجلسة التى عٌقدت في مجلس العاصمة طوكيو في يونيو ٢٠١٤عندما أطلقت أثناءها بعض التعليقات الجنسية الساخرة  أثرا كبيرا،  ليس على المستوى المحلى فقط بل وخارج البلاد أيضا.

وربما استخدم تعبير sekuhara  باللغة اليابانية وهو اختصار لغوي لعبارة التحرش الجنسي بالإنجليزية (sexual harassment) لأول مرة عام ١٩٨٩ عندما أقدمت أول امرأة يابانية على رفع دعوى قضائية أمام محكمة فوكوكا في واقعة تحرش جنسي، فتمت صياغة هذا الصطلح على هذا النحو في نفس العام وانتشر استخدام هذا التعبير بسرعة كبيرة، حتى إنه قد فاز بجائزة ”الكلمة الجديدة“ لعام ١٩٨٩.

وبعد مرور عقد من الزمن تم تعديل قانون تكافؤ فرص العمل من قبل المجلس التشريعي الوطني، وجاءت هذه الخطوة  لإدراج حكم إلزام أصحاب العمل بمنع التحرش الجنسي داخل المؤسسات والشركات المسئولين عنها، وكان ذلك قبل مرور ما يقرب من الـ 15 عاما.

إلا أن بعض الوقائع الأخيرة تشير إلى حدوث تغيرات كبيرة بالمجتمع اليابانى ومن أمثلة ذلك ما أظهرته صفحات التواصل الاجتماعي، منذ فترات قريبة من سيطرة مشاعر الغضب من تلك الأشرطة الترويجية الصادرة عن سلسلة مراكز تسويق Lumine، من خلال طرود بريدية لمنتجات عالم الموضة، وتحتوي على مقاطع فيديو بها مواد إباحة، ويحدث ذلك تحت غطاء من العبارات التي تحمل قيما اجتماعية مثل عبارة “دعم المرأة العاملة”، ويبدو أن ذلك مجرد عبارت ظاهرية فقط.

هذا بالإصافة إلى ما أثارته الطالبات مؤخرًا من عدم شعورهن بالأمان عند استقلالهن للقطارات كوسيلة مواصلات؛ حيث يتعرضن فيها إلى التحرش بشكل دائم من الرجال، ولكن هذا استدعى منهن البحث في سبل مختلفة لمواجهة ما يتعرضن له خلال تلك المشكلة.

وربما تواجه الفتيات هناك مشكلة مع بداية كل عام دراسي جديد؛ حيث تحمل أذهانهن مخاوف من موسم بدء موجات جديدة من التحرش اللاتي سيتعرضن لها، حيث يتردد أنها تقع باستمرار.

موسم التحرش

وتؤكد ذلك الناشطة يايويي ماتسوناجا، التي ترأس مجموعة تناهض التحرش بمدينة أوساكا الكائنة بغربي اليابان؛ حيث ذكرت أن شهري أبريل ومايو عادة ما يزداد فيهم حوادث التحرش، وتسجل الشرطة أعددا من الأشخاص المقبوض عليهم في تهم مثل ذلك في هذا الوقت من كل عام بنسب أعلى من باقي شهور السنة؛ حيث بداية التزام الطلاب الجدد بالحضور في المدارس العليا، حيث الانتقال عبر القطارات للتوجه إلى مدارسهم.

وقد لجأت الطالبة تاكاكو وأمها- وهى إحدى الطالبات اللاتي عانين مرارًا من تلك السلوكيات-  إلى وسيلة جديدة لردع المتحرشين المحتملين بشكل فردي، حيث قامت بصنع بطاقة مغلفة وكتبت عليها بلهجة التهديد “التحرش جريمة، لن أتحملها في صمت”، وقامت بتعليقها على حقيبتها كرسالة تهديد واضحة  بوسيلة مبتكرة لردع من يفكر في أن يقترب ليتحرش بها.

وربما كان هذا التجاهل الذي واجهنه من مسئولي الشرطة ومسئولي السكك الحديدية، هو ما دفهما لابتكار هذه البطاقة، بعدما تحدثت تاكاكو مع أمها وأخبرتها بما تواجهه في طريقها إلى المدرسة- وهو ما لا تفعله الكثيرات؛ حيث يخجلن من إخبار أحد بما يقع لهن من حوادث التحرش-  وقد تناقشت أمها معها وقررتا اللجوء للمسئولين سواء من الشرطة أو من السكك الحديدية إلا أنهما لم ينالا أي اهتمام لما قدموه من شكوى، لذا قررتا الاعتماد على أنفسهما وتوصلتا إلى صنع هذه البطاقة، وقد ثبت أن هذه الطريقة من التهديد مجدية وأتت بالفعل بثمارها؛ حيث لم تتعرض تاكاكو إلى هذه الحوادث منذ ذلك الحين بعدما علقت بطاقتها.

وتوضح ماتسوناجا أنه برغم القوانين التي سنت لمعاقبة المتحرشين، حيث يواجهون عقوبات قد تصل إلى السجن لمدة ستة أشهر، أو بدفع غرامة مالية تصل إلى نصف مليون ين “4700 دولار” فإن المتحرشين لا يتوقفون عن أفعالهم تلك ويمارسون التحرش بداخل القطارات، وفي أماكن أخرى غيرها، وبرغم ذلك لا يوجد إلى الآن أي وعي اجتماعي مشترك في اليابان لمواجهة هذه الجريمة الجنسية التي ترتكب في حق الفتيات، وخاصة في حالة عدم جدوى القوانين.

شارات لمواجهة التحرش

وقد دفع النجاح الذي حققته بطاقة تاكاكو وأمها ماتسوناجا إلى تفكيرهما بتأسيس “مركز أنشطة منع التحرش” وقامتا بالفعل بتنفيذ فكرتهما في يناير 2016، كما قامت ماتسوناجا بخطوة أوسع؛ حيث جمعت التبرعات لتمويل فكرتها لمنع التحرش وتحويل فكرة بطاقة بطاقة تاكاكو إلى فكرة عامة، وشارات تعلقها الفتيات على ملابسهن أو حقائبهن خلال رحلاتهن إلى المدارس، وتمكنت من جمع 2.12 مليون ين خلال ثلاثة أشهر فقط، حيث أتاح لها عملها كصحفية حرة تنفيذ ذلك بسهولة، وأصبحت تلك الشارات متاحة للبيع من خلال بعض المتاجر الكبرى، وكذلك داخل محطات القطارات نفسها.

ولتفاقم تلك الظاهرة قامت الحكومة اليابانية ووكالة الشرطة الوطنية بالاعتراف بمدى خطورة هذه المشكلة منذ أكثر من عقد، وقامتا بإلزام الشركات المسئولة عن تشغيل القطارات بتخصيص عربات للنساء فقط، في المدن الكبرى للحد من تعرض النساء وحمايتهن من التحرش.

ولكن ماتسوناجا تنتقد عدم تخصيص تلك العربات بشكل دائم للنساء وتقول إن هذا القرار لا يؤدي للحماية الكاملة للنساء؛ حيث إن هذه العربات تعمل لعدة ساعات فقط أثناء الذروة الصباحية، واجتمع النشطاء على مطالبة شركات السكك الحديدية بتخصيص عربات القطارات المحددة للنساء في أوقات المساء أيضا، إلا أن هذه المطالب لم تجد أي صدى للاستجابة لها.

في حين أن المتحدث باسم شركة السكك الحديدية لشرقي اليابان، والتي تعتبر أكبر شركة من نوعها في البلاد كويشيرو جو ذكر أن الشركة قد قامت ببعض الخطوات للحد من انتشار هذه الظاهرة، ومن ذلك ما فعلته الشركة بوضع كاميرات مراقبة منذ عام 2010 داخل أحد أكثر خطوط القطارات التي يقال إنها تشهد أعلى معدلات للتحرش، ويؤكد أن هذا الإجراء أثبت بالفعل تراجع هذه الظاهرة، مشيرا إلى أن معدلات الازدحام تكون في أقصى درجاتها بالسعات الصباحية، وهي التي تم تحديد عربات خاصة بالنساء فيها.

وقد اتخذت الشركة التي تخدم  17 مليون راكب يوميًا إجراء آخر إضافيا خلال هذا الشهر من خلال وضع كاميرات مراقبة في خط ثان للقطارات، إلا أن ذلك يقابله عشرات الخطوط الأخرى التي تعمل دون وضع كاميرات مراقبة.

وفي خطوة لجذب انتباه الرأي العام ليخلق حالة من الإدراك والتفاعل بهذه القضية قام المركز طلاب المدارس العليا والجامعات بطرح مسابقة سنوية لأفضل التصميمات الجديدة للشارات المناهضة للتحرش، وبالفعل تم منافسة  1338 تصميمًا جديدًا تقدمت بهم حوالي 250 مدرسة العام الماضي للحصول على الجائزة الأولى– حسبما ذكرت ماتسوناجا- إلا أن الطالبة هانا فوجي من كلية التصميم بجامعة طوكيو للتكنولوجيا هي من فازت بالجائزة الأولى بعد أن كتبت على بطاقتها شعار “لماذا تتحرش ؟” بدلا من شعر لا للتحرش وفسرت ذلك بأنها قد حصلت على إحدى المعلومات من مقال قرأته يعني أن التحرش هو نوع من أنواع الإدانة، لذلك فكرت بأن هذا الشعار سيكون أكثر فاعلية.