عن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: دخلت على أبي (عبادة) وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال أجلسوني، قال: يا بني، إنك لن تطعم طعم الإيمان ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله -تبارك وتعالى- حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكُن ليصيبك وما أصابك لم يكُن ليخطئك، يا بُني إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن أول ما خلق الله -تبارك وتعالى- القلم ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، يا بني إن متّ ولست على ذلك دخلتَ النار.

“واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً” (من حديث عبد الله بن عباس: احفظ الله يحفظك)، بعباراتٍ مطمئنة لقلب الفتى، وبجرعة إيمانية، لترسيخ مفهوم الصبر والتصديق والظن بالله والإيمان بأن ما يحدث لنا لا بد أن يحدث، ولأننا حتماً سنُسقى بكأس الابتلاء والألم كانت هذه الجرعة الإيمانية لنا وللفتى لا بدّ أن تكون.

ومن منا لم يُسقَ من تلك الكأس، التي مرارتها تفتك الصدور وتقض المضاجع، وتبلي الأجساد، وتبدل الوجوه والملامح، وتستنزف المشاعِر، وتجفف الدموع؛ فقدتَ ما فقدت، وعانيت ما عانيت، ولكنك في النهاية بشر، له ما يستطيع من الصبر قدرهُ.

حتى الأنبياء لم يسلموا فشربوا من تلك الكأس، فسيدنا موسى قد ابتلاه الله حين سُئل عن أعلم أهل الأرض، فقال: أنا، فكان الابتلاء في أن ينسب علم الأرض لنفسه! حتى أدركه النصب من سفره الذي أمره الله به أن يلتقي بمَن هو أعلم منه، فسار معه ليتعلم وليعلمنا، ولكن على قدر ما عنده من العلم لم يستطِع أن يتحمّل ما حدث في رحلتهم، فما حدث كان أقوى من تقديراته وعابراً لحدود معارفه، وما حدث منه من استعجال في السؤال وعدم الصبر هو ما يتماشى مع الطبيعة البشرية؛ لأن ما حدث أمامه شيء يرفضه العقل المجرد، فكيف يصبر على ما لم يُحِط به خبراً؟

وفي هذه الرحلة، وقفت مع حدثٍ غريب وكأنه يصفني، ولا أعرف ما الذي أنار لي قلبي حينها لأتلمس ما فيه من عبر ومواقف..

ركب سيدنا موسى -عليه السلام- والخضر سفينة الأغراب، فاقتلع الخضر منها لوحاً من الخشب ونزل. لا يهمنا ما فعلوه بعدما اكتشفوا ذلك الأمر، ولكنهم بالتأكيد غضبوا لهذه الفعلة وسخطوا ولنقُل إنهم -ربما- ودوا لو لم يقفوا لهم بعد؛ ولكن ليعلمنا أمراً أن الحكمة تأتي بعد القضاء، ولأنهم مساكين يعملون في البحر، أراد الله أن يحفظ لهم سبيل عيشهم، ولكن بابتلائهم فيه! حتى يتركهم ذلك الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة غصباً.

ولكن ما يشبه حالتي هي تلك الحالة التي جلس فيها الأبَوانِ الثكالى يبكيان غلامهما المفقود، الذي قُتل -بتقديرنا البشري- بدمٍ بارد.. كل المقادير التي وضعت على طاولة تحقيقاتهما تشير إلى أنه لا شيء يمكن أن يبرر ما حدث لغلامهما، ولم يستطيعا اختلاع ذلك الألم الذي ولج صدريهما، ولم يدركا الحكمة من ذلك، ولكن لأنهما مؤمنان سيتحلان بالصبر؛ لأن إيمانهما استوجب عليهما ذلك.

جلستُ وألمي أتأمل جيداً حكمة الله في جعل غلامهما يقتل، وهي أن يبدلهما خيراً منه، وليس لإيلامهما وجعلهما يكويان بنار الفقد وعذابها، ولكن ما كان لهما من الله أجمل من الذي فقداه.

في كل مرة ومع كل ابتلاء ندرك أننا لا نعلم شيئاً من حكمة الله ولا ندرك، ولكننا نسخط ونغضب، ننسى أننا بشر، أعيننا ضيقة، لا تتسع إلا لأمور عينية لا تعبر عن الأمور ولا تظهرها كاملةً، فنسخط لما نرى؛ لأننا نقدر الأشياء بتقديراتنا البشرية المحدودة، لا نسلم وجهنا لله كما أمرنا، فنحيا منغّصي العيش.

حُسن التوكل على الله والظن بالله، هو الذي يجعلنا نحتسب كل ما يصيبنا عنده، ويجعلنا موقنين أن ما أصابنا هو الذي كان يجب أن يكون، لحكمة لا يعلمها إلا الله، ولا نعلمها، ولسنا مطالبين بذلك، كل ما يطلب منا هو حسن الظن، والتحلي بالقليل من الصبر، أو الكثير منه إن لزمَ الأمر.

في المراحل الثلاث التي مر بها الخضر في رحلته مع سيدنا موسى، كانت الابتلاءات لأناس صالحين، والمنحة لأنه “وكان أبوهما صالحاً”؛ وجود ربط شديد بين الصلاح في المراحل الثلاث أمر مهم يتوجب علينا الوقوف عنده قليلاً.

في وقفة تعلّم وترسيخ فكرة القدر المحجوب ليعلمنا الله كيف نتعامل معه، وهو لا يوافق أهواءنا ولا عقولنا، وكيف نتقبله بقلوبٍ واعية ونفوسٍ راضية.

فإما أن تكون مبتلى من الله لصلاحك، أو مبتلى لتعود صالحاً كما كنت، أو كما يريد لك الله أن تكون، وبالتالي فإن الابتلاء تطهير وتنقيح؛ نقف أمام تمحيص الله واصطفائه لنا بصبر وثبات وعلم بأن الله لا يظلم عباده حاشاه.

الله لطيفٌ بعباده، لطيفٌ بنا إلى حد لا نعلمه، وأشد رحمة بنا من الأم على رضيعها، فأقداره دروسٌ لنا، وتدبيرٌ سليمٌ لأمورنا، إما بسرّاء نتلمسها، أو ضرّاء تلاشت عنا، أو لنقابله بصبرٍ جميل، فيعاملنا برحمته وعفوه.

الأشياء الجميلة تُفسدها الظنون السيئة، والحياة الكريمة تُفسدها تبعات مدّ أعيننا إلى غيرنا، ولكن مَن يدري، فالابتلاءات أنواع، ولا نعرف أي مبتلى يبتليه الله أو فيما يبتليه!

لو أن أحدهم اقتلع من سفينتك لوحاً ورحل، لو أنه جاء وأخذ قلبك أو استنزفه ورحل، لا تدري لعل فعلته أنجتك من آخر كان ينتظرك في أشدك وأقوم هيئتك حتى يأخذك إلى طريق اللارجعة! حتى يأخذك إلى فقدان نفسك وعالمك، ولكنك تعلم أن مَن اختلع منك قلبك أو استنزفه أهون عليك مِن الذي كاد أن يأخذك إلى الهاوية، ولكنه تركك عندما رآك تتألم.