ربى الطاهر
تواجه دول شرق آسيا أزمة اجتماعية خطيرة، تتمثل في تراجع معدلات الزواج، ومن ثم المواليد، إلا أن كوريا الجنوبية قد أخذت على عاتقها مواجهة هذه المشكلة، ووضعت خططًا بنقاط محددة، في محاولة لزيادة أعداد المواليد، خاصة بعد أن شهد عام 2017 أسوأ معدل للمواليد في تاريخ كوريا الجنوبية، ووصل عدد المواليد أثناءها إلى 1.05 لكل سيدة، ويعتبر هذا المعدل أقل من المعدل المطلوب بنسبة كبيرة، حيث كان المتوقع للحفاظ على ثبات عدد السكان أن يصل المعدل إلى 2.01 لكل سيدة.
ولذلك وجهت الحكومة جهودها لمحاولة التصدي لهذه المشكلة، وخصصت مليارات الدولارات خلال العقد الماضي لمحاولة زيادة معدل الخصوبة، وكان أبرز هذه الإستراتيجيات التي وضعتها، هو زيادة عدد أيام الإجازات التي تُمنح للأب بعد الولادة، كما تم منح الأسر التي لديها ثلاثة أطفال أو أكثر، أولوية في الحصول على خدمات رعاية الأطفال المدعومة من الحكومة، بالإضافة إلى التكفل بمصاريف علاج العقم.
جيل السامبو
واتخذ الشباب في كوريا الجنوبية منهجًا يثير التعجب في الحياة! حتى أطلق عليه “جيل السامبو”، بعد أن سيطرت عليه سلوكيات الزهد في ثلاثة أشياء هي الأكثر ارتباطًا بمرحلة الشباب، وهي “الزواج، وإنجاب الأطفال، أو حتى الدخول في علاقات عاطفية”.
وأرجع بعض المختصين هذه الظاهرة لتعرض الشباب لبعض الصعوبات، كالحصول على وظيفة في ظل انتشار ظاهرة البطالة، وأرجعت الأبحاث هذه الظاهرة إلى أن عدم الاستقرار المادي يعتبر العائق الأساسي أمام الإقدام على الزواج، مما جعل الكثيرين منهم ينظرون إلى الزواج على أنه أمر اختياري وليس من الضروريات، إلا أن الأمر لم يتوقف عند حدود الرجال، ولكنه امتد كذلك إلى النساء اللاتي لديهن مخاوف من التبعات المادية.
وربما تعاني العديد من بلدان منطقة شرق آسيا وجنوبها الشرقي، مثل تايوان واليابان وهونج كونج وسنغافورة، مما تعانيه كوريا الجنوبية من التراجع في معدلات الخصوبة.
وفي سعيها لرفع معدلات الخصوبة والإنجاب نظمت إحدى الجامعات بعاصمة كوريا الجنوبية “سيول” دورة دراسية جديدة تحت عنوان “الزواج والأسرة”، إلا أنها اعتمدت في تدريس المواد المقدمة بها على مخالفة القواعد الاجتماعية الخاصة بالأدوار الطبيعية للجنسين في المجتمع.
وركزت على تحدي الاستمرار بنفس الأدوار التي وصفتها بالنمطية، حتى إن المحاضرة يون جو لي، كانت تركز فيما تدرسه أثناء تلك الدورة على تقبل الطلاب لاتصاف المرأة بصفات ذكورية أو العكس، وتطمئنهم إلى أن ذلك ليس أمرًا سلبيًّا!.
وفي جامعة “دونجوك”، كانت “لي” تطلب من طلابها أن يرسموا قارورة، ثم دراجة هوائية، وتقول إن طريقة الرسم إنما تدل على الصفات الذكورية أو الأنثوية في الشخصية، فمثلًا إذا رسمت فتاة دراجة من الأمام إلى الخلف، فقد يعني هذا أن لديها صفات ذكورية، وتؤكد لهم أن الغرض من هذه الاختبارات هو إيضاح السمات الشخصية لكل فرد عن نفسه.
وفي سعيها لترسيخ هذا التحدي للأدوار الطبيعية للرجل والمرأة، كانت تعرض صورًا لأطفال ذكور يلعبون بالدمى ويدفعون عربات الأطفال، وفتيات يلعبن بالأدوات اليدوية للتركيب والبناء، وتقول “لي” إن هذه الصور هي إعلانات أوروبية عرضت لنفس الهدف بتحدي القوالب النمطية للذكور والإناث.
واعتبر القائمون على الدورة أن هذه القضية كانت المحرك الأساسي لتكوين نظرة الشباب والشابات عن الزواج وإنشاء الأسر، والتي تعد من القضايا الشائكة، حيث إن هذه المعايير المجتمعية راسخة في كوريا الجنوبية وهي المسؤولة عن تحديد دور ربة المنزل للمرأة، وللرجل دور المعيل الوحيد للأسرة، حيث يصنف المجتمع الكوري الأدوار الاجتماعية على أساس النوع الاجتماعي بحكم الأنماط الثقافية المتجذرة منذ سنوات طويلة، والتي لم تتغير إلا عقب الازدهار الاقتصادي الذي شهدته البلاد في الستينيات من القرن الماضي!.
تغيرات اجتماعية متسارعة
ولكن هناك عوامل أخرى قد تساهم في تزايد هذه المشكلة؛ حيث يقول البعض إن الحياة الخاصة تنتهي تمامًا داخل الحياة الزوجية، ويزداد الأمر بعد الإنجاب، لاسيما أن عادات الكوريين كانت تفرض على المرأة في العقود السابقة الزواج في بيت عائلة الزوج، ولكن ذلك كان يعرضها لمعاملة أدنى من باقي أفراد العائلة.
وتوضح جين يونج، الأستاذة والمديرة بمركز أبحاث الأسرة والتعداد السكاني بجامعة سنغافورة الوطنية، أن بعض بلدان شرق آسيا مثل كوريا وسنغافورة، شهدت فترة من التغيرات الاجتماعية المتسارعة التي طرأت على الاقتصاد والتعليم ودور المرأة، بالتوازي مع إنجازات اقتصادية كبرى، وأطلق على هذه المرحلة “الحداثة المضغوطة”، وهذه التغيرات ربما كانت قد تستغرق قرنًا في حالة تعرض الدول الأوروبية لها، ولكنها استغرقت عقدين أو ثلاثة، وهو ما جعلها تفوق مقدرة المؤسسات والأعراف الاجتماعية على مواكبتها.
ولكن قطاع الشركات هو من عجز كلية عن مراعاة احتياجات الأسر المعاصرة، وهو السبب الذي أرجعت إليه “لي” عدم رغبة الفتيات في تحمل مسؤولية أسرة وأطفال، في ظل عدم مراعاة الشركات لمتطلبات الأم العاملة.
أما أستاذ الإحصاءات السكانية بجامعة ملبورن بأستراليا، بيتر ماكدونالد، فيرى أن أصحاب العمل لا يشغلهم كثيرًا الحياة الاجتماعية للموظف، بل على العكس، هم دائمو التوقع من العاملين والتفاني والإخلاص واستغراق ساعات أطول في العمل، خاصة في القارة الآسيوية.
كما أوضح تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2015، أن التفاوت في توزيع المهام المنزلية بين الرجل والمرأة، هو أحد أسباب رغبة المرأة عن الزواج؛ إذ إن الرجل الكوري يقضي في حدود 45 دقيقة فقط في المهام المنزلية، وبالمقارنة بمعدل الساعات التي يقضيها الرجل في الدول الأعضاء بمجلس التعاون الاقتصادي والتنمية فيما يخص المهام المنزلية، فهو لا يصل إلى ثلثه.
حوافز مالية للآباء
وتتضمن دورة الزواج والأسرة عددًا من الأنشطة؛ منها ما يطلق عليه المشاركون “المواعدة الإجبارية”، بينما تطلق عليه “لي” مسمى “لعبة الاقتران”، وهو نشاط يمارسونه فيما بينهم، إلا أن هذه السياسة التي تسلكها الحكومة الكورية من التربية التأسيسية لم تظهر له أية نتائج إلى الآن، في حين تتبع بعض الدول الأخرى التي تعاني نفس المشكلة، أساليب مختلفة لرفع معدلات المواليد.
ومن تلك البلدان سنغافورة، التي تتبع سياسية الحوافز المالية التي تمنح للآباء عند كل مولود جديد لتشجيعهم على الإنجاب، كما أنها تمنح الأطفال مبالغ مالية بنفس مقدار المبالغ الماليه التي يدخرها له والداه بحساب الادخار الخاص به لتأمين مستقبله، إلا أن نسبة الزيادة في عدد المواليد بعد خمس سنوات من تطبيق هذه السياسية لم يزد زيادة تذكر.
أما كوريا الجنوبية، فقد أطلقت مبادرة “يوم الأسرة” عام 2010، حيث يتم تحديد يوم أربعاء شهري ينصرف فيه الموظفون مبكرًا لقضاء الوقت مع عائلاتهم بناء على طلب من وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية والشؤون الأسرية في مدينة سيول، إضافة إلى اتباع سبل أخرى منها إطفاء الأنوار الساعة السابعة مساء لتشجيع الموظفين الحكوميين على العودة لمنازلهم مبكرًا لزيادة النسل، إلا أن ذلك أيضًا لم يكن مجديًا.
وترجع “يونج” أسباب عدم تأثر الموظفين بهذه الحوافز إلى أن هذه السياسة لم تنجح في معالجة أصول المشكلة المتجذرة في المجتمع، كما لم تواكب هذه التغيرات التي حدثت على المستوى الاجتماعي حيث أدوار الرجل والمرأة.
أما ماكدونالد، فيرى أن جهود الحكومة الكورية لن تجدي طالما أن المجتمع لازال يحمل نفس الثقافة فيما يخص النظرة للرجل والمرأة.
وقد واجهت الحكومة العديد من الانتقادات لتحميلها للمرأة مسؤولية انخفاض معدلات المواليد، كما قد تم حذف أحد المواقع على الإنترنت، التي ترشد عن مواقع النساء اللاتي بلغن سن الإنجاب، وذلك بعد أن أثار هذا الموقع استياءً جماهيريًّا وردود أفعال معارضة، إلا أن مثل هذه السلوكيات قد تزيد من تمسك النساء بما هن عليه، مما يؤدي إلى استقرار الوضع المنخفض في معدلات المواليد.
اضف تعليقا