منصور عطية
لم يغب عن ساحة الأحداث في المنطقة، لكن مصطلح “صفقة القرن” يتردد الآن بقوة بالتزامن مع حدثين فاصلين، نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس المحتلة، والمجزرة التي راح ضحيتها العشرات من الفلسطينيين على حدود قطاع غزة برصاص الاحتلال.
واعتبر كثيرون أن الحدثين يأتيان في سياق التحضيرات النهائية لإتمام الصفقة التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها.
ولا يمكن في هذا السياق تجاهل تعليق الخبير الإسرائيلي في شؤون الإعلام والأمن “يوني بن مناحيم” على مسيرات العودة، حين قال: “إنهم يبتكرون طرقًا جديدة وحيوية لانتفاضة من نوع آخر، واستراتيجية تهدف إلى تسخين الحدود لإلغاء صفقة القرن والتعكير على سياسة التقارب بين الدول العربية وإسرائيل”.
وتابع الخبير “ربما تعدّ هذه المسيرات وجهًا جديدًا من إستراتيجية المقاومة الفلسطينية بعد انتفاضات الحجارة والسكاكين والسلاح الناري، وقد أتى الدور اليوم على انتفاضة الجماهير المحتشدة من خلال مظاهرات ذات طابع سلمي، وبذلك ارتدت الفصائل الفلسطينية زيًا جديدًا من الثورة الشعبية”.
ووفق تقديرات الخبير الإسرائيلي، فإنّ وضع مزيد من العقبات والعراقيل أمام مخطط تمرير صفقة القرن يبدو الهدف الأكبر من تحركات الفلسطينيين، على اعتبار أن تمرير الصفقة يستلزم حالة من الهدوء والاستقرار على حدود قطاع غزة، سواء كانت مع مصر أو مع الأراضي المحتلة.
خطوة بخطوة
أحدث هؤلاء كان الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني رئيس الوزراء القطري السابق، الذي أشار إلى دعم دول عربية كبرى، لم يسمِّها، للصفقة وتفريطها في المقدسات والحقوق الوطنية.
وقال في سلسلة تغريدات عبر حسابه على تويتر: “حذرت وتمنيت مرة من خلال التلفزيون ومرة من خلال تويتر ألا يكون هناك تفريط في القضية الفلسطينية وبالذات في موضوع القدس، وها هي صفقة القرن تنفذ خطوة خطوة بدعم وتأييد دول عربية كبرى. واسألهم بالله عليكم ما هو الثمن؟”.
وتابع: “علما أنه يفترض أن لا ثمن يساوي التفريط في المقدسات والحقوق الوطنية. وموقفي من الحل السلمي واضح ويقوم على حفظ حقوق الفلسطينيين وبموافقتهم. للأسف دخلنا في نفق مظلم في عالمنا العربي، ليس في هذه القضية فقط رغم أهميتها، لكن في كل قضايانا الدولية والمحلية”.
واختتم المسؤول القطري السابق بالقول: “وكل البيانات التي تصدر فهي رفع عتب، ولكنهم للأسف شركاء في كل ما يجري. لست محرجا من ذكر الأسماء التي ساهمت في وصولنا لهذه الحالة، لكن ما زلت أتمنى أن يعودوا إلى رشدهم”.
قبل تغريدات ابن جاسم بساعات قليلة تحدث الأمين العام لحزب الله اللبناني “حسن نصر الله” عن القضية ذاتها، قائلًا: “إن المشروع الأمريكي الحالي للشرق الأوسط سيسقط بمجرد سقوط أحد أضلاعه الثلاثة، وهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان”.
وأوضح في خطاب تلفزيوني، بُث أمس الاثنين، أن “أضلع صفقة القرن ترامب ونتنياهو ومحمد بن سلمان هم مهزوزون ولا ندري ماذا يحصل لهم في المستقبل، بينما محور المقاومة أقوى وأثبت وأصلب”.
مفاجآت جديدة
ولمزيد من الربط، فقد تحدثت القناة الثانية الإسرائيلية قبل أيام عن إمكانية إطلاق الإدارة الأمريكية “صفقة القرن” بعد نقل سفارة واشنطن للقدس المحتلة، وكشفت مفاجآت من بينها اشتمال الصفقة على تقديم تعويضات مالية للفلسطينيين.
وخلافًا لما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية في السابق عن مضمون “صفقة القرن”، ركزت القناة الثانية على ما نقلت عن مصدر سياسي إسرائيلي رفيع المستوى، قوله إن “خطة السلام الجديدة، تتضمن تعويضات مالية للفلسطينيين في محاولة لإعادتهم إلى المفاوضات والمشهد السياسي”.
وتناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرًا أبرز مضامين “صفقة القرن” اعتمادًا على ما نُسِب للمبعوث الأمريكي لعملية السلام بالشرق الأوسط جيسون جرينبلات، بحيث يتضح أن مقترح حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 يونيو 1967 ليس أساسًا لخطة السلام الجديدة، وهو المقترح الذي ترفضه الدول العربية والسلطة الفلسطينية.
وفيما تتفق حكومة نتنياهو وإدارة ترامب على دولة فلسطينية بلا سيادة ومنزوعة السلاح، مع وجود ثابت للجيش الإسرائيلي على طول نهر الأردن والحدود، مع بقاء صلاحيات الأمن القصوى بيد تل أبيب ومشاركة الأردن ومصر والولايات المتحدة؛ تتباين المواقف حيال المشروع الاستيطاني؛ إذ تبدي واشنطن موافقتها على ضم 10% من الضفة الغربية والكتل الاستيطانية لإسرائيل، فيما يصرّ نتنياهو على ضم مساحة 15% من مساحة الضفة.
وكشفت تقارير إعلامية أنّ إدارة ترامب تقترح “عاصمة مصطنعة” لدولة فلسطين في ضواحي القدس خارج إطار ستة كيلومترات مربعة من حدود 1967، مع بقاء الوضع على ما هو عليه في القدس القديمة وتمكين رقابة وإشراف دولي، فيما تضمن إسرائيل حرية العبادة في الأماكن المقدسة لجميع الديانات، وهو الطرح الذي يتحفظ عليه نتنياهو الذي يخشى أن تمهد مبادرة ترامب لعاصمة للفلسطينيين بالقدس.
وتضمن “صفقة القرن” انسحابًا تدريجيًا لجيش الاحتلال من المناطق المصنفة (أ، ب، ج)، بموجب اتفاقية أوسلو الثانية الموقعة في سبتمبر 1995، حيث لم يحدد الموعد النهائي للانسحاب والذي سيكون مشروطًا بأداء السلطة الفلسطينية، عندها ستعلن عن دولة فلسطين بهذه الحدود المصطنعة بحسب المناطق المصنفة، على أن يعترف المجتمع الدولي بـ”إسرائيل وطنًا قوميًا للشعب اليهودي، وبالدولة الفلسطينية المصطنعة وطنًا قوميًا للشعب الفلسطيني”.
توقيت اختير بعناية
ويبدو أن الوقت اختير بعناية فائقة من أجل التمكين لتنفيذ الصفقة على أرض الواقع، فهذه هي بدايات الصدام الإسرائيلي الإيراني على الأرض السورية، الأمر الذي يغذي ثقافة التطبيع العربي والخليجي تحديدًا مع الاحتلال كمن باب العداء ضد إيران.
ولا خلاف أن عملية التطبيع العربي الإسرائيلي تكمن في القلب من صفقة القرن، بحيث تقود إلى عزل القضية الفلسطينية عن محيطها وسندها الرئيسي، بعد نسج التحالف الجديد، وربطه بوحدة المصالح التي تفرضها وحدة المواجهة.
ولم يكن صدفة أن يتم، قبل أيام فقط، تسريب خبر لقاء سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أثناء زيارة الأخير للعاصمة الأمريكية، في مارس الماضي.
وليس مصادفة أيضًا أن يتزامن مع ذلك التغريدة المثيرة للجدل لوزير الخارجية البحريني “خالد بن أحمد”، التي اعترف خلالها بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
وقبل أيام أيضًا، شارك متسابقون من دولتي الإمارات العربية المتحدة والبحرين في ماراثون إسرائيلي في مدينة القدس المحتلة، نظمته سلطات الاحتلال احتفالًا بذكرى قيام الدولة، وهي التي تقابل عربيًا وإسلاميًا ذكرى نكبة فلسطين عام 1948.
وعلى مدار الأشهر الماضية، بدا من خلال عدة وقائع رصدها وحللها (العدسة) أنّ السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي.
وفي نوفمبر نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية تقريرًا، وصفت فيه ولي العهد السعودي بأنه “رجل إسرائيل في السعودية”، وقالت إنّ “بن سلمان” عنصر “يمكن الاعتماد عليه في مشروع أمريكي إسرائيلي طويل الأمد لخلق شرق أوسط جديد”.
في مصر، الأمر مختلف كثيرًا حيث أصبح الحديث عن التطبيع غير ذي جدوى، بعد أن وصلت العلاقة بين النظام الحاكم فيها والاحتلال لمستويات غير مسبوقة دفعت السيسي إلى لقاء علني هو الأول من نوعه بين رئيس مصري ورئيس وزراء الاحتلال منذ سنوات.
كما تجاوز الواقع الحديث عن علاقات دافئة أو حتى تنسيق أمني وعسكري إلى إعداد الدراسات الإسرائيلية المستفيضة حول الأهمية التي تكمن وراء بقاء السيسي رئيسًا لمصر، الرغبة الإسرائيلية في ذلك.
إسرائيل ومن ورائها أمريكا تبدو مُصرّة على تنفيذ الصفقة وتعبر عن ذلك مرارًا وتكرارًا، ففي مارس قالت للسفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة “نيكي هايلي” إن “اقتراح خطة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين اكتمل تقريبا”.
وفي فبراير أبلغ مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط “جيسون جرينبلات” قناصل دول أوروبية معتمدين في القدس، بأن صفقة القرن “في مراحلها الأخيرة”، ونقلت تقارير إعلامية عن أحد المشاركين في اللقاء -دون ذكر اسمه- أن “جرينبلات” في معرض حديثه عن صفقة القرن أكد للمسؤولين الأوروبيين أن “الطبخة على النار ولم يبق سوى إضافة القليل من الملح والبهارات”، على حد تعبيره.
اضف تعليقا