العدسة – معتز أشرف
في مطالعة دورية مهمة لخبراء مركز كارينجي للدراسات الاستراتيجية في الشرق حول الاتفاق النووي العالمي ضمن القضايا التي يبحثها وتتعلق بسياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومسائل الأمن، أكّد خبراء المركز أهمية التحرك الأوروبي لإنقاذ الاتفاق ودعم طهران لكسر الانفراد الأمريكي بالقرار وعدم تقدير واشنطن لمصالح حلفائها الاقتصادية في أوروبا، مشددين على أهمية التنسيق المشترك بين دول أوروبا وخوض مغامرة قد تنجح وقد لا تحقق كل أهدافها، ولكن ستسجل في الحد الأدني تحركًا أوروبيًا في الوقت المناسب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
تحرك مطلوب
إيلي جيرانمايه، الزميلة البارزة في السياسات العامة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ترى في المطالعة الدورية التي وصلت “العدسة” أن تعهد أوروبا وإيران بالشروع في مفاوضات مكثّفة لإنقاذ الاتفاق النووي، يأتي في سياق أن أوروبا من الأطراف المعنية الأساسية في الاتفاق، وبالتالي ترتبط محاولات صونه بشكلٍ أساسي بهمومها الأمنية الاستراتيجية وبالحفاظ على سيادتها وموقعها العالمي في السياسة الخارجية، ولكن إدارة ترامب تعتزم في الأشهر المقبلة فرض عقوبات أمريكية ثانوية كان قد تم تخفيفها في إطار الاتفاق ليكون السؤال المطروح هو الآتي: إلى أي حدّ ستذهب الولايات المتحدة في تطبيق هذه العقوبات لمنع الشركات الأوروبية من التعامل مع إيران فالدول الأوروبية تتأمل أن تتوصّل، من خلال مفاوضاتها مع الولايات المتحدة، بالحصول على إعفاءات وتنازلات تصبّ في مصلحة شركاتها.
وتشير إلى أنه من المستبعد أن تتحقّق هذه الإعفاءات، لكن الدول الـ28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بإمكانها، إن رغبت في ذلك، الضغط سياسيًا وقانونيًا لتقليص التأثير المؤذي للعقوبات الثانوية على الشركات الأوروبية إلى حدّه الأدنى. ومن جملة الإجراءات الأخرى، بإمكان الاتحاد الأوروبي أن يُعيد العمل بـ”نظام المنع” ليشمل العقوبات الأمريكية الثانوية التي أُعيد فرضها على إيران؛ وبإمكانه أيضًا إنشاء صندوق تعويضات تستطيع الشركات الأوروبية من خلاله استعادة الرسوم والغرامات التي تفرضها الهيئات الناظمة الأمريكية على الأنشطة مع إيران المسموح بها بموجب قانون الاتحاد الأوروبي؛ ويمكن أن يمنح الهيئات الناظمة في الاتحاد صلاحيات الإشراف على أنشطة وزارة الخزانة الأمريكية والتدقيق فيها في إطار تنفيذها للعقوبات الثانوية ضد الشركات الأوروبية وأصولها الواقعة ضمن نطاق السلطة القضائية الأمريكية.
وتتوقع جيرانمايه أن يصمد الاتفاق إذا قدّمت الإجراءات التي ستتخذها أوروبا ضمانات كافية لطهران بأن حاجاتها الاقتصادية والأمنية يمكن أن تُلبّى، ومع أن أوروبا قد لا تتمكن من إنقاذ الاتفاق، يجدر بها أن تحاول القيام بذلك، وأن تُبدي استعدادها السياسي من خلال خطوات تشكّل سابقة للمجتمع الدولي، أما خلاف ذلك فسيؤدّي سريعًا إلى عواقب كارثية في الشرق الأوسط، ويحدّ إلى درجة كبيرة من مكانة أوروبا وتأثيرها في الأمن العالمي.
مخاطرة كبيرة!
من جانبه يؤكد ريتشارد جولدبرج المستشار البارز في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات أن ما يقوله الدبلوماسيون الأوروبيون وما تفعله الشركات والأعمال الأوروبية مسألتان مختلفتان، فقد يزعم القادة الأوروبيون أنهم ملتزمون بالاتفاق النووي مع إيران، إنما لن يجرؤ أي مصرف أو شركة تأمين أو شركة أوروبية بكامل صوابها، على تخطّي العقوبات الأمريكية حيث إنّ خطر الطرد من المنظومة المصرفية الأمريكية يفوق بأشواط أي منفعة محتملة يمكن تحقيقها من التجارة مع إيران.
ويشدد جولدبرج على أنه يجب أن يتذكّر الأوروبيون أن إيران تبقى الدولة الأولى الراعية للإرهاب في العالم– وهي تتحمّل مسؤولية هجوم إرهابي دموي وقعَ على الأراضي الأوروبية خلال العقد الراهن، ومن جهة أخرى، تبقى الولايات المتحدة الحليف العسكري الأهم لأوروبا، ودولنا هي ديمقراطيات منفتحة؛ في حين أن إيران هي نظام ديني قمعي، وبالتالي قد لا يحبّ الأوروبيون دونالد ترامب، وقد يعترضون على قراره، إنما الوقوف إلى جانب دولة راعية للإرهاب في مواجهة الحليف الاستراتيجي الأكثر وفاء، سيكون خطوة غير مسؤولة على الإطلاق.
نجحنا من قبل!
ديفيد جاردنر الكاتب في صحيفة “فايننشال تايمز”، ومؤلف “الفرصة الأخيرة: الشرق الأوسط في الميزان” يشير إلى أنه يمكن قراءة المشهد من بدايته عندما قالت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة إنها تعتبر أن القرار الذي صادق مجلس الأمن الدولي بموجبه على الاتفاق النووي مع إيران في العام 2015، ملزِم قانونيًا، وإنها تنوي مواصلة التقيّد به، غير أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يهددّ حلفاء بلاده وخصومها أيضًا بفرض عقوبات عليهم إذا لم تتوقف شركاتهم عن التعامل مع إيران في غضون ستة أشهر، بينما يقول الاتحاد الأوروبي إنه سيتحرّك لحماية أعماله، وهو ما يستلزم الرجوع قبل أكثر من عشرين عامًا، حين تصدّى الاتحاد الأوروبي بنجاح للمحاولات الأمريكية الهادفة إلى معاقبة الشركات الأوروبية بموجب قانون العقوبات على إيران وليبيا؛ حيث حدث ذلك في عهد الرئيس بيل كلينتون، لكننا الآن في عهد ترامب.
وأوضح أنّ تهديد الطرد من السوق الأمريكية والمنظومة المصرفية الأمريكية من خلال امتداد وزارة الخزانة في الخارج، سيؤدّي إلى إغلاق معظم الأنشطة التجارية والاستثمارية، وسيكون من الصعب على أوروبا أن تدفع بإيران إلى الحفاظ على التزامها وعلى تقيّدها بالاتفاق النووي، إلا إذا استطاعت تقديم المنافع الاقتصادية التي كان من المفترض أن تحصل عليها إيران مقابل تعليق برنامجها النووي.
التنسيق مطلوب
أما فرانسوا دالانسون مراسل الشؤون الخارجية في صحيفة “لاكروا” في باريس فيصف الموقف بأنه ” شائك”، مضيفًا أنه من غير المرجّح أن ينجح في شكل كامل، لكنه ممكن”، مستدلًا بما جاء على لسان رئيس الوزراء السويدي السابق، كارل بيلدت في هذا الصدد، مؤكدًا أنه يجب أن تنصبّ الجهود الأوروبية على السبل التي تتيح إبقاء إيران في الاتفاق النووي عبر الحرص على استمرار طهران في التقيّد به، مع إفادتها من بعض المنافع الاقتصادية الموعودة بموجب الاتفاق.
وأشار إلى أن الاتفاق النووي، بعد انسحاب الولايات المتحدة منه، يقتضي التزامًا سياسيًا واقتصاديًا قويًا من الجانب الأوروبي، من أجل التصدّي للعقوبات الثانوية التي فرضتها إدارة ترامب، والشروع في حوار رفيع المستوى مع إيران، مؤكدًا أنّ التنسيق الشديد بين الشركاء الأوروبيين– لا سيما، إنما ليس حصرًا، بين فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا– والاستخدام الواسع للسياسة الخارجية والأدوات التجارية الخاصة بالاتحاد الأوروبي، شرطًا مسبقًا للنجاح.
وأكّد أهمية أن تقول أوروبا للولايات المتحدة بوضوح إنّه لا يمكن التفاوض على “اتفاق جديد” من دون التزامٍ من جانب الخزانة الأمريكية بتقليص تأثيرات العقوبات الثانوية على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران إلى حدّها الأدنى، ففي حال لم تُقدِّم واشنطن إعفاءات يجب أن يعوّض الاتحاد الأوروبي عن أي غرامات أمريكية قد تسدّدها شركاته التي تتعامل تجاريًا مع إيران، وأن يضع رزمة متكاملة، بما في ذلك تنظيمات أوروبية منقّحة، لتعطيل العقوبات الثانوية الأمريكية، وإذا امتنعت إيران عن القيام بخطوات استفزازية يجب ألا يُسارع الاتحاد الأوروبي إلى تبنّي عقوبات جديدة مرتبطة ببرنامج إيران الصاروخي أو سياستها الإقليمية، أو الاثنَين معًا، قبل الشروع في حوار دائم مع طهران حول المسألتَين.
ضرورة أوروبية!
من جانبه يرى جاريت بلان الباحث البارز في برنامج الجغرافيا الاقتصادية والاستراتيجية في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، أنّ الجواب المختصر علي هل تستطيع أوروبا أن تنفذ الاتفاق النووي مع إيران ؟وكيف؟ هو: ربما بشرط انطلاق سلسلة من الاجتماعات على مستوى وزراء الخارجية، فمن الواضح أن إيران وأوروبا وروسيا سوف تحاول الإبقاء على الاتفاق، رغم أن الجزء الأكبر من المنافع التي حصلت عليها إيران بموجب الاتفاق النووي يقوم على رفع العقوبات الأمريكية، ولكن مع انسحاب الولايات المتحدة، يتعيّن على أوروبا تقديم تنازلات جديدة، اقتصادية بشكل أساسي ، كي يبقى الاتفاق جديرًا بالعناء بالنسبة إلى إيران.
وأوضح أن العقوبات الثانوية الأمريكية أداةٌ قوية، إنما لم يتم وضعها على محك الاختبار قط في مواجهة تصميم جدّي من جانب الحكومات الأوروبية، فعبر التحلّي بالعزيمة، يمكن الحفاظ على بعض المنافع الاقتصادية للاتفاق واستبدال منافع بأخرى. فنحصل في نهاية المطاف على نسخة معدَّلة إلى حد كبير من الاتفاق النووي، إنما تصب، على ما يُفترَض، في إطار الهدف الجوهري المتمثّل في كبح البرنامج النووي المدني الإيراني.
وأضاف جاريت بلان أنّ هذا الأمر ليس مرتبطًا بالجانب الاقتصادي بالنسبة إلى أوروبا، فإيران ليست سوقًا مهمّة بما يكفي للمجازفة بحدوث احتكاك في العلاقة عبر الأطلسي، وفي حال قررت البلدان الأوروبية المجازفة، فلأنها تعتبر أن الاتفاق النووي مهم لأمنها القومي، وكذلك لأنها تخشى أن واشنطن لم تعد تأخذ مصالح حلفائها على محمل الجد.
اضف تعليقا