منصور عطية
لاقت مسألة العلاقات بين مصر والسودان مؤخرًا إجماعًا على أن الأزمة الدبلوماسية الناتجة عن بعض الملفات المشتركة والحساسة، قد انقشع غبارها كثيرًا، خاصة بعد إعفاء وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور الذي اشتُهِر بمواقفه ضد القاهرة.
لكن من قلب العاصمة المصرية، انطلق مسلسل تليفزيوني يرى السودانيون أنه يشير إليهم وإلى المصريين المقيمين في بلادهم، ويكدر صفو العلاقات بين الشعبين والبلدين، فإلى أي درجة يمكن أن تتجدد الأزمة من باب الدرما؟

أزمة أبو عمر المصري

الاحتجاج السوداني على عرض مسلسل “أبو عمر المصري” لم يأتِ على شكل تصريحات إعلامية لأحد المسؤولين هناك على مستوى ميدان الثقافة والإعلام، لكن الأمر وصل إلى عتبات وزارة الخارجية التي أعلنت أنها استدعت قبل أيام السفير المصري بالخرطوم “أسامة شلتوت” وسلمته احتجاجًا رسميًا على عرض المسلسل “المُسِيء” للخرطوم.
المتحدث الرسمي باسم الخارجية السودانية، قريب الله الخضر، قال في بيان: إنه منذ مطلع شهر رمضان، بدأت بعض القنوات الفضائية المصرية عرض مسلسل بعنوان أبو عمر المصري، بعد أن تم الترويج له “بصورة عكست إصرار البعض على اختلاق وتكريس صورة نمطية سلبية تلصق تهمة الإرهاب ببعض المواطنين المصريين المقيمين أو الزائرين للسودان”.
وتابع البيان: “سعى القائمون على المسلسل لإيهام المتابعين بأن بعض أجزاء السودان كانت مسرحًا لبعض أحداثه، واستخدمت العديد من الوسائل لهذا الغرض، كلوحات السيارات، التي تعدّ رمزًا سياديًا لا يجوز التعامل به إلا بعد الحصول على موافقة من السلطات السودانية المختصة”.
وأضاف أنَّ هذا العمل “المُسِيء للشعبين” أساء بوجه خاص للوجود المسالم للمواطنين المصريين بالسودان، الذين هم موجودون بعلم السلطات المصرية وفقًا لاتفاق تسهيل حركة المواطنين بين البلدين، على حد تعبيره.
وأوضح الخضر أن الخارجية السودانية طلبت من السلطات المصرية المعنية المبادرة لاتخاذ “قرار مناسب يضع حدًا أمام محاولات البعض العبث بمصالح ومكتسبات البلدين”، مشيرًا إلى أن وزير الدولة بالخارجية السودانية “محمد عبد الله إدريس” تناول أمر المسلسل خلال لقائه مع وزير الخارجية المصري سامح شكري بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا منتصف مايو الجاري.
من جنبها علقت شبكة قنوات “أون” المنتجة للعمل الدرامي، ببيان رسمي أكدت فيه أن المسلسل “بُني على وحى وخيال مؤلفه، ولم يحتوِ على مشاهد أو تلميحات للدولة السودانية أو حكومتها أو الشعب السودانى الشقيق”، وأنه “لا يمتّ بصلة لمواقف الدولة المصرية الحريصة دومًا على تقوية وتنمية علاقاتها مع دولة السودان وشعبها الشقيق”.
وتدور أحداث المسلسل حول محامٍ مصري يدعى فخر الدين (أحمد عز) الذي أسّس مع مجموعة من المحامين تنظيمًا سلميًا سعى لإيجاد حلول لمشاكل وقضايا المواطنين البسطاء بعيدًا عن مافيا المحاماة، إلا أنَّ هذا التنظيم سرعان ما يثير غضب جهاز أمني فيلجأ إلى التصفية الجسدية لأعضائه.
وينجو فخر الدين من محاولة اغتياله (التي يقتل فيها ابن خالته عيسى)؛ فيهرب إلى فرنسا منتحلًا شخصية ابن خالته الذي كان يتأهب للسفر إلى باريس لدراسة القانون، وهناك يلتقي بمحبوبته القديمة التي تنجب له ابنًا هو (عمر) ثم تموت وهي تنجبه.
ليقرر بعدها “فخر الدين” الانتقال بصحبة طفله للعيش بالسودان، وهناك يتحول إلى كادر مهم من كوادر أحد الجماعات الإسلامية المسلحة، وعينه على العودة والثأر من قاتل ابن خالته.

قضايا خلافية لم تمحُها الرسميات

اللافت أنه قبل شهرين فقط عاد السفير السوداني لدى مصر “عبدالمحمود عبدالحليم” إلى القاهرة بعد استدعائه للتشاور، وبعدها بأيام التقى الرئيسان عبدالفتاح السيسي وعمر البشير بالقاهرة في زيارة قالت عنها رئاسة الجمهورية في مصر إنها “تأتي في وقت دقيق”، وأن “جميع الملفات مطروحة للنقاش خلال اللقاء”.
من جانبه لم يخفِ السودان الأزمة أيضًا، فقال عبر المتحدث باسم الخارجية في تصريحات صحفية إن “عودة السفير لا تعني أن القضايا التي من أجلها تم استدعاؤه حُلّت ولكن وضعت خريطة طريق لإيجاد حلول لها في الاجتماع الرباعي”.
وتابع أنّ “الاجتماع وضع أفكارًا للمعالجة لكن الأمر يعتمد على التنفيذ”، مشيرًا إلى أنّ الخلافات تدور حول “ثلاث قضايا هي حلايب وسد النهضة الإثيوبي والإعلام”، فيما بقيت عودة السفير تعدّ إحدى ثمار الاجتماع الرباعي الذي ضمّ وزيري خارجية ومديري جهازي المخابرات في البلدين بالقاهرة فبراير الماضي.
مجرد عقد القمة عدَّه كثيرون بادرة أمل على تجاوز العقبات بين البلدين، إلا أنَّ الرياح ربما تأتي بما لا تشهيها السفن، خاصة أن الجانب السوداني يركز بشدة على ممارسات الإعلام المصري ويتابع بدقة ما يبثه بشأن الخرطوم.
هذا الملف الإعلامي، يعدّ أبرز القضايا الخلافية ولا يمكن الاستهانة به؛ حيث تشهد البلدان تراشقات يقودها الإعلام الحكومي تارة والخاص تارة أخرى بما يشكل إساءات بالغة لقادة وشعبي البلدين.
خطوة استدعاء السفير السوداني جاءت بعد يوم واحد من نفي المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية صحة ما تردَّد من أنباء نقلتها صحف سودانية عن أن مصر طلبت استبعاد السودان من المفاوضات الخاصة حول سد النهضة الإثيوبي.
وكانت مصر أعلنت رسميًا في نوفمبر الماضي فشل مسار المفوضات الفنية بشأن سد النهضة، نتيجة رفض كل من السودان وإثيوبيا للتقرير الاستهلالي من المكتب الاستشاري الفرنسي الذي يقيم التأثيرات المحتملة على مصر نتيجة إنشاء السد، والتي تقول القاهرة إنه سيَحْرِمها من حصتها التاريخية في مياه النيل.
وإلى جانب الخلاف حول السد، يقوم خلاف عميق بين البلدين حول السيادة على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي الواقع على البحر الأحمر والذي تسيطر عليه مصر منذ العام 1995، فيما تؤكد الحكومة السودانية أنه تابع لسيادتها منذ استقلالها في عام 1956.
وبينما يطالب السودان بالتفاوض أو التحكيم الدولي، تعقدت الأزمة في أعقاب عدم اعتراف الخرطوم باتفاقية ترسيم الحدود التي تنازلت بموجبها مصر عن جزيرتي تيران وصنافير في شمال البحر الأحمر للسعودية.
وبينما اتهم البشير القاهرة صراحة بدعم معارضين سودانيين بالسلاح، تتهم وسائل إعلام مصرية الخرطوم مرارًا بإيواء عناصر في جماعة الإخوان المسلمين التي تعتبرها القاهرة إرهابية منذ إطاحة الجيش بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013.
وربما كانت القشَّة التي قصمت ظهر البعير قرار السودان تخصيص جزيرة سواكن في البحر الأحمر لتركيا من أجل تطويرها وإدارتها لمدة غير محددة، وهو ما اعتبرته القاهرة موجهًا ضدها بسبب التوتر مع أنقرة وقرب الجزيرة من مناطق نفوذ مصر على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر.