كتب- باسم الشجاعي

مع بدء العدّ التنازلي للانتخابات الرئاسية المبكرة في تركيا، تشهد العملة المحلية “الليرة”، تراجعًا شديدًا أمام العملات الأجنبية، وخاصة الدولار الأمريكي.
وبات انخفاض سعر الليرة التركية المفاجئ حديث الشارع السياسي، ومحط اهتمام الجميع؛ حيث أصبحت مصدر قلق واهتمام الكثير من المراكز والقنوات الصديقة للرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، وتلهف وفرحة كثير من الجهات المتربصة بأنقرة.
لكن يبقى التساؤل الأكثر تداولًا حاليًا على لسان الجميع، لماذا هذا التدهور الآن؟ وهل هناك أسباب اقتصادية تستدعي هذا التدهور؟ أم أن هناك مؤامرة خارجية وأيادي خفية كما أشار لها الرئيس التركي تريد تحقيق ما لم تستطع تحقيقه خلال الانقلاب العسكري الفاشل؟

كيف بدأت القصة؟

على الرغم من قوة الاقتصاد التركي والنجاحات التي حققها خلال العقد الماضي، على مستويات الاستثمارات الأجنبية والسياحة وعجز الموازنة، إلا أنَّ “الليرة” تراجعت إلى مستويات قياسية جديدة أمام الدولار في نهاية تعاملات الأسبوع الماضي بشكل مثير للشك، وفق ما أكده خبراء.
وهوى سعر صرف العملة التركية خلال تعاملات الأسبوع الماضي إلى 4.92 ليرات مقابل الدولار لتسجل بذلك مستوى قياسيًا منخفضًا جديدًا.
وارتفعت خسائر الليرة منذ بداية العام الحالي (2018) إلى 17 %، مسجلة سلسلة مستويات قياسية منخفضة.
وفي مواجهة هذا التدهور المستمر عقدت لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي اجتماعًا طارئًا قررت خلاله رفع أحد أسعار الفائدة الأربعة الرئيسية بهدف تعزيز وضع الليرة؛ حيث بلغت الزيادة 75 نقطة.
ورفع البنك نافذة السيولة المتأخرة إلى 13.50 % من 12.75 %. وأبقى على سعر إعادة الشراء (الريبو) دون تغيير عند ثمانية %.
وتوقع عشرة من 13 خبيرًا اقتصاديًا استطلعت رويترز آراءهم زيادة في نافذة السيولة المتأخرة. وتوقع أربعة منهم زيادتها بواقع 50 نقطة أساس بينما توقع ثلاثة رفعها بين 25 و75 نقطة أساس، في حين توقع ثلاثة آخرون أن يبقي البنك على سعر الفائدة دون تغيير.
وبعيد اجتماع البنك المركزي، أكد الرئيس التركي، “رجب طيب أردوغان”، أن تركيا ستتخذ بعد الانتخابات المقرر إجراؤها في الـ24 من الشهر المقبل إجراءات مختلفة لخفض التضخم والعجز في ميزان المعاملات الجارية.
وقال “أردوغان” -خلال لقاء مع برلمانيين سابقين في العاصمة أنقرة- إن تقلبات العملة لا تتماشى مع الواقع الاقتصادي في البلاد، وحث الأتراك على ألا يفضلوا العملات الأجنبية على عملتهم الوطنية.

ما هي الأسباب؟

من المؤكد أن هناك عوامل اقتصادية وراء ذلك؛ حيث يرى الخبراء أن الأسباب التي تدفع وراء تراجع عملة ما مثل تراجع الصادرات أو تراجع احتياطات النقد أو هجرة المستثمرين أو حدوث كساد في قطاعات ما في البلاد ليست متوفرة في الحالة التركية، وهذا ما يجعل الأسباب السياسية تتصدر المشهد.
كما أنَّ حالة التجاذب الداخلي في وجهات النظر المتعلقة بالسياسات النقدية في الحكومة التركية، لديها وجهة نظر مخالفة عن البنك المركزي التركي وبعض البنوك حول رفع أسعار الفائدة، فالحكومة ترى أن رفع الأسعار سيؤثر سلبًا على خطط الحكومة الاستثمارية والتوسعية، وترى أنه لا بئس من ارتفاع الأسعار الآن في سبيل تحقيق الأهداف الاستراتيجية والتنمية الاقتصادية المستدامة.
فضلًا عن أن الوضع السياسي غير المستقر فيما يتعلق بالعمليات العسكرية التي تقوم بها أنقرة في سوريا والعراق، والانتخابات التركية المقبلة، وزيادة الحكومة التركية الإنفاق على الشقّ الاجتماعي والصحي، ساهم في إرهاق الموازنة العامة وزيادة العجز فيها.
نظرية المؤامرة أيضًا ليست بعيدة عما يحدث في الليرة، وهو ما أكّده “بكر بوزداغ” نائب رئيس الوزراء والمتحدث باسم الحكومة التركية، قائلًا إنّ “هناك لعبة تجري باستخدام الليرة لكنها لن تغير في نتائج الانتخابات المقررة الشهر المقبل”.
“بوزداغ”، أضاف -في تصريح صحفي-: “ندرك جيدًا وجود إرادة تسعى للتأثير على الناخبين الأتراك عبر رفع سعر الدولار أمام الليرة التركية. نعرف قواعد الاقتصاد، ونؤكد أن اقتصادنا قوي”.
وأردف، أنّ جميع المؤامرات التي تحاك ضد تركيا الهدف منها عرقلة فوز الرئيس “رجب طيب أردوغان” في الانتخابات الرئاسية المقبلة، أو على الأقل تقييد وتكبيل حركته عبر البرلمان.
كما تشير استطلاعات الرأي إلى أن 40% من المواطنيين يرون بأن وراء تدهور الليرة التركية وارتفاع الدولار، مؤامرة خارجية على تركيا.
فتركيا تأثرت أيضًا بالأوضاع الجيوسياسية في المنطقة والأزمة السورية وتوتر العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، كما أن للانقلاب الفاشل ومحاولات علاج آثاره خلال السنوات الماضية، فضلًا عن القضاء على مجموعة “جولن” المتغولة في المؤسسات التركية، إضافة لنفقات مواجهة تركيا للتهديدات في جنوبها من ناحية المواجهات والمناوشات المدمرة في سوريا والعراق وإقليم شمال العراق.
كل هذا آثار سلبية تضافرت مع الآثار الاقتصادية، مما تسبب في تراجع سعر الليرة التركية.

فتش عن الإمارات والسعودية مجددًا؟

من اللافت للانتباه أيضًا في أزمة الليرة التركية، الحرب التحريضية التي تشنها أطراف سعودية وإماراتية ضد تركيا؛ حيث تصدر على موقع “تويتر” حملات طالبت منذ أيام بمقاطعة السياحة والسفر إلى أنقرة؛ حيث تصدر وسوم “#مقاطعة_السفر_الي_تركيا”، و”#مقاطعة_السياحة_التركية”، في أبو ظبي والرياض.
وكانت نسبة التفاعل الكبرى المؤيدة للفكرة جاءت من الإمارات.
وعلى الرغم من جميع الدعوات لمقاطعة السياحة في تركيا فإن الأرقام تبين أن الإمارات والسعودية تأتيان بالمرتبة الثانية والثالثة من حيث السياحة العربية في تركيا، خلال عام 2017، كما تعدّ تركيا أفضل الوجهات السياحية لدى دول الخليج العربي عامة.
فالتصعيد الإماراتي السعودي ضد أنقرة لم يكن وليد اللحظة؛ إذ سبقه خطوات عملية؛ أبرزها دعم محاولة الانقلاب العسكرية للإطاحة بالرئيس “أردوغان”، في يوليو 2016، بأكثر من 3 مليارات دولار، وذلك وفق ما كشف موقع “إنترسبت الأمريكي”.
كما لا يمكن تجاهل محاولات اختراق الإمارات للاقتصاد التركي، بشراء بنك “دنيز” التركي خلال الأيام الماضية، وذلك بعد ضغوط مكثفة من البنك التركي لإقناع الرئيس “رجب طيب أردوغان”، بمزايا الصفقة المحتملة التي قد بلغت قيمتها 4.3 مليار دولار، رغم الشقاق الدبلوماسي.
فالتوقيت يكشف نية أولاد زايد في التلاعب بسعر صرف الليرة التركية، والتي تأتي ضمن محاولات الانقلاب الاقتصادي للإطاحة بـ”أردوغان” وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة، أو التأثير السلبي على النتيجة المتوقعة لصالح الرئيس الحالي.
لو آمنا جدلًا بصحة التقارير الدولية السلبية عن الاقتصاد التركي، فمن غير المعقول أن تستثمر أبوظبي أموالها في دولة أوضاعها الاقتصادية غير مستقرة إلا لو كان ذلك له أهداف سياسية بحتة، أو أن الإمارات تؤمن بأن التقارير الدولية عن الاقتصاد التركي “مسيسة”، ومتيقنة من أنه اقتصاد قوي سيحقق أرباحًا كبيرة لاستثماراتها، وذلك وفق ما قال الخبير الاقتصادي “أحمد مصبح”.

هل ستخرج تركيا من مأزق “الليرة”؟

المؤشرات تؤكد أن تركيا ستتمكن من الخروج من مأزق انهيار الليرة؛ حيث عادت العملة المحلية لمكاسبها، نهاية الأسبوع المنصرم، بعد انتعاشها بقوة، عندما رفع البنك المركزي سعر فائدته الرئيسي 300 نقطة أساس في خطوة لرفع العملة المتهاوية.
وصعدت الليرة إلى 4.5650 للدولار، مقارنة مع 4.59 عند الإغلاق “الأربعاء” الماضي، الذي شهد تسجيل مستوى قياسي منخفض بلغ 4.9290 قبل تحرك البنك المركزي.
وجاء تدخل المصرف المركزي، مشابهًا لما حدث عام 2014 وقت رفع أسعار الفائدة خلال اجتماع طارئ، ليوقف موجة مبيعات مماثلة للتي جرت خلال الأيام الماضية.
كما يرى خبراء اقتصاديون أن تدهور الليرة عبارة عن تقلبات مؤقتة ومحدودة ولا تعكس على الإطلاق، حالة الاقتصاد التركي، والهبوط في سعر الصرف ليس نتيجة ضعف اقتصاد البلاد، بل إنه مرتبط بدوافع سياسية إقليمية ودولية ضد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” وحزب العدالة والتنمية الحاكم، خاصة مع بدء العد التنازلي لموعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر إجراؤها في 24 يونيو المقبل.