العدسة – معتز أشرف

في تقدير موقف مهم في توقيته، بالتزامن مع الأوضاع الساخنة في قطاع غزة، نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، المقرب من دوائر صنع القرار في واشنطن، حذر رغم لغته المحسوبة قليلًا على روايات الكيان الصهيوني، من استمرار فرض الحصار على قطاع غزة في ظل الأوضاع الراهنة، متوقعًا تفجر الأوضاع على نسق غير مرغوب لأحد.

لا يمكن التجاهل

تقدير الموقف الصادر بعنوان “الأرقام مقابل الروايات في إسرائيل وفلسطين“، ووصل (العدسة)، أعده “نيري زيلبر”، الباحث المتخصص في الشرق الأوسط، والزميل المساعد في معهد واشنطن، والذي شدد على أنه لا يمكن ببساطة تجاهل مشاكل غزة – وأولها المسائل الاقتصادية والاجتماعية – خشية أن تنفجر إلى الخارج من جديد، حيث يمثل التصعيد الأخير للأعمال العدائية بين إسرائيل والمسلحين، والذي اندلع في غزة في 29 مايو، دليل إضافي على السياسة القابلة للاشتعال، والتي تحيط بالأراضي المحاصرة.

وأضاف أنه مع ذلك، فإن الاستجابة الضئيلة، في مطلع هذا الشهر، التي قامت بها إسرائيل والقدس والضفة الغربية، والمشاركة الضعيفة في غزة، قد تدل على شيء مماثل: ففي أشد الأماكن المسيّسة في العالم، يتوق الكثير من الناس إلى الاستقرار والحياة الطبيعية، وليس إلى الصراع اللانهائي وإراقة الدماء المتاحة دومًا.

وأكد أن غزة لا تزال محط الأنظار، موضحًا أن الأرقام التي صدرت الأسبوع الماضي تشير إلى: ما الذي تغير، وما الذي لم يتغير، كما ووجّهت حصيلة القتلى المرتفعة على الحدود الاهتمام العالمي نحو التركيز على الأوضاع الإنسانية القاسية داخل غزة، وهي مجموعة بيانات مؤلمة دفعت الأمم المتحدة إلى إعلان أن القطاع لن يكون صالحًا للسكن بحلول عام ٢٠٢٠، ما جعل مصر تردّ بفتح معبر رفح الحدودي مع غزة طوال شهر رمضان، كما قامت الحكومة الإسرائيلية، تماشيًا مع توصية “جيش الدفاع الإسرائيلي”، بإعادة فتح معبر كيرم شالوم الحدودي مع غزة بسرعة.

وأشار إلى أنه على الرغم من الأضرار الكبيرة التي سببها مؤخرًا من وصفهم بـ”مثيرو الشغب الفلسطينيون”- بحسب لغة المعهد – تدفقت شاحنات المساعدات الطبية والإنسانية، مع تجديد إمدادات وقود الديزل وغاز الطهي ولوازمهما، وتم السماح بنقل أكثر من عشرين جريحًا إلى مستشفيات في الأردن ومصر، مؤكدًا أنه في حين أن هذه الأرقام مخيبة للآمال، إلا أنها تشير إلى اتجاه إيجابي ينبغي الاستفادة منه.

عواطف متأججة

وأشار إلى أنه بعد الأسبوع الدموي الذي شهده الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أصبحت العواطف متأججة في كافة أنحاء العالم، مع تبادل الاتهامات من كلا طرفي النزاع حول ما إذا كانت إسرائيل استخدمت القوة المفرطة في الدفاع عن حدودها مع غزة من آلاف المتظاهرين الفلسطينيين، موضحًا أن انتشار المتظاهرين داخل اثني عشر موقعًا مختلفًا في كافة أنحاء غزة، بعكس المواقع الخمسة السابقة في الجُمعات السابقة شكّلت معضلة أمنية أكثر تعقيدًا.

وتبني تقدير الموقف الصادر من المعهد المقرب من اللوبي الصهيوني الرواية الصهيونية، حيث زعم أن هذه الإجراءات من غزة أوضحت الفرق الحقيقي، كما يؤكد جيش الدفاع الإسرائيلي، في ضراوة وعدوانية الإجراءات المتخذة ضد السياج الحدودي!، ما استلزم استجابة عسكرية أكثر فتكًا (وبشكل رئيسي، عن طريق القنص المحدّد الهدف) فقُتل أكثر من ستين متظاهرًا، بعكس يوم الجمعة الأول، الذي سقط فيه تسعة عشر متظاهرًا، بحسب زعمه، فيما ثمن التقدير عدم وقوع السيناريو الأسوأ، وهو بحسب رأيه: “لم يحتشد سكان غزة لاقتحام السياج الحدودي بأعداد هائلة تصل إلى عشرات الآلاف”.

ويرى تقدير الموقف أن الوقائع المدعومة بالبيانات بالإضافة إلى المعطيات المذكورة في سياق الأحداث إلى خلاصة شاملة واحدة، وهي أن “حماس” تتحكم بكل ما يجري داخل غزة وفقًا لمعتقداتها وتوجهاتها، فلأسبابها السياسية الخاصة، بحسب ما يقول التقدير، يجب الاختيار بين التظاهر (أو لا)، وإطلاق النيران الحية (أو لا)، وإطلاق الصواريخ (أو لا)، إذ كانت النيران الحية في يوم النكبة بمثابة رسالة واضحة إلى إسرائيل بأنه في حين أن الاحتجاجات قد تكون قد انحسرت، غير أن الجماعة تحافظ على خيار التصعيد العسكري – مهما كان وقعه كارثيًّا على أهالي غزة، وقد شاهدت المناطق الإسرائيلية الأخرى، فضلًا عن القدس والضفة الغربية، الأحداث التي وقعت في بحر الأسبوع، ولا بد من الاعتراف بذلك، مع شعور واضح من اللامبالاة، ليس تجاه الدماء المراقة على الحدود بين إسرائيل وغزة فحسب، بل انتقال السفارة الأمريكية إلى القدس ويوم النكبة.

وأشار تقدير الموقف إلى أنه في ١٣ مايو، شكّل صعود نحو ٢٠٠٠ إسرائيلي من اليهود المسيانيين، إلى جبل الهيكل (الحرم الشريف أو مجمع المسجد الأقصى)، نقطة محفّزة أبدية، حيث انتشر فيديو تظهر فيه المشاجرات التي حصلت بين المصلين المسلمين والشرطة الإسرائيلية، ولكن هنا أيضًا لم يحدث الاحتمال الأسوأ، واستمر هذا الاتجاه في اليوم التالي، وظهر جليًا غياب الاحتجاجات الجماعية التي ينظمها اليسار الإسرائيلي عادة حول الأحداث في غزة، وقد يكون ذلك إشارة إلى اضمحلال تأثيره في السياسة الإسرائيلية، وتناقص دعم الشعب له وفهمه لدور جيش الدفاع الإسرائيلي في التعامل مع المسيرات الحدودية، بحسب زعم التقدير.

فشل “فتح”

وتناول تقدير الموقف الأوضاع في الضفة على هامش أحداث غزة، موضحًا أن ما يثير الدهشة هو استجابة الضفة الغربية -السلطة الفلسطينية- الفاترة لأحداث الأسبوع، حيث إنه بعد ارتفاع حصيلة القتلى في غزة، إلى جانب تأثير يوم النكبة، كان الخوف أن تتجه الضفة الغربية نحو التصعيد، ومع ذلك، وعلى الرغم من دعوات السلطة الفلسطينية إلى إقامة إضراب عام وحداد، ظهر نفس عدد المتظاهرين (أي ٢٠٠٠ متظاهر) في ١٥ مايو، حيث سُجّلت حالة وفاة واحدة (فتى عمره ١٥ عامًا)جراء الاشتباكات التي تلت الاحتجاجات.

ويرى التقدير أن هذا الأمر يكشف عن وجود تباين صارخ عند مقارنته بعشرات الآلاف من المتظاهرين الذين أقاموا مظاهرات تضامنية مع غزة في أماكن مثل إسطنبول والرباط، وقد يعزى هذا الافتقار الشديد في التعبئة إلى أسباب متنوعة، منها حاجة الفلسطينيين الشديدة (وإن كانت نسبية) إلى الاستقرار، وإعادة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى طبيعتها، والسبب الآخر هو تصرفات السلطة الفلسطينية نفسها: الفشل في حشد كوادر “فتح” للنزول إلى الشوارع من جهة، والسيطرة الفعالة من قبل قوات الأمن الفلسطينية من جهة أخرى، فيما يرى معد التقدير، نيري زيلبر، أنه على الرغم من الولاء المصطنع لفكرة الوحدة الفلسطينية، لم ترغب السلطة الفلسطينية على الأرجح في زعزعة استقرار الضفة الغربية من أجل ما تعتبره إقليمًا منفصلًا تحكمه منافستها (حماس).