جلال إدريس

ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فالفلسطينيون الذين ينتفضون اليوم في مسيرات العودة، ويسطِّرون بدمائهم أسمى معاني البطولة والشجاعة في مواجهة المحتل الغاصب، دفاعًا عن وطنهم وعن قدسهم الشريف، هم أبناء وأحفاد الأبطال الشجعان الذين ضحوا بأرواحهم قبل 88 عامًا للدفاع عن حائط البراق بمدينة القدس الشريف، والذي يطلق عليه الصهاينة “حائط المبكى”.

ويوافق 17 يونيو من كل عام ذكرى إعدام سلطات الانتداب البريطاني أبطال “ثورة البراق” التي اندلعت في أغسطس 1929 وأعدم على إثرها الأبطال الثلاثة: محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير، وذلك  قبل 88 عامًا.

وتم إعدام (جمجوم وحجازي والزير) في 17 يونيو عام 1930 داخل سجن القلعة بمدينة عكا على الرغم من الاستنكارات والاحتجاجات العربية.

فما هي قصة ثورة البراق؟ ولماذا أعدم الاحتلال هؤلاء الشهداء الثلاثة؟ وكيف واجهوا المحتل الغاصب بكل شجاعة وقوة؟

الثورة من البداية

اندلعت ثورة البراق عندما نظم اليهود مظاهرة ضخمة في 14 أغسطس من عام 1929 بمناسبة ما أسموه “ذكرى تدمير هيكل سليمان” أتبعوها في اليوم التالي بمظاهرة ضخمة في شوارع القدس، حتى وصلوا إلى حائط البراق، وهناك راحوا يردِّدون “النشيد القومي الصهيوني”، بالتزامن مع شتم المسلمين.

وفي اليوم التالي، الجمعة 16 أغسطس صادف ذكرى المولد النبوي الشريف، توافد المسلمون ومن ضمنهم الشهداء الثلاثة للدفاع عن حائط البراق؛ حيث كان هناك نية لليهود للاستيلاء عليه، فوقعت صدامات عمَّت معظم فلسطين.

علمت الشرطة البريطانية عن المظاهرة سلفًا وأرسلت قوات كبيرة لمرافقة المتظاهرين اليهود. في اليوم التالي ردّ العرب بتنظيم بمظاهرة مضادة من المسجد الأقصى واتجهوا إلى حائط البراق، وهناك استمعوا إلى خطبة من الشيخ حسن أبو السعود، تبيِّن الأخطار التي تهدِّد المقدسات الإسلامية.

في الأيام التالية تفشَّت الاشتباكات والثورة إلى مدن أخرى، حيث قتل عرب في مدينة الخليل 67 يهوديًا من سكان المدينة، واضطرت سلطات الانتداب البريطاني لطلب المساعدة من القوات البريطانية في مصر كي تتمكن من إيقاف الثورة

كانت حصيلة الاشتباكات، التي امتدت من الخليل وبئر السبع جنوبًا حتى صفد شمالًا كالتالي: 116 شهيدًا فلسطينيًا و133 قتيلًا يهوديًا ونحو 232 جريحًا فلسطينيًا و339 جريحًا يهوديًا.

وخلال الثورة اعتقلت شرطة الانتداب حينها 26 فلسطينيًا ممن شاركوا في الدفاع عن حائط البراق، وحكمت عليهم جميعًا بالإعدام في البداية، لينتهي الأمر بتخفيف هذه العقوبة عن 23 منهم إلى السجن المؤبد، مع الحفاظ على عقوبة الإعدام بحق الشهداء الثلاثة (محمد خليل جمجوم، وفؤاد حسن حجازي، وعطا أحمد الزير)، وأعدمتهم بسجن مدينة عكا المعروف باسم (القلعة).

من هم الأبطال الثلاثة؟

انتهى الحكم البريطاني الجائر بإعدام ثلاثة أبطال فلسطينيين هم  (محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير).

وفي تعريف كل منهما ذكر المؤرخون أن “فؤاد حجازي” كان من مدينة صفد وخرّيج الجامعة الأمريكية في بيروت أول الشهداء الثلاثة وأصغرهم سنًا.

وكان “حجازي” أصغر الثلاثة سنًا وهو مولود في مدينة صفد، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية في الكلية الأسكتلندية، والجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وعرف منذ صغره بشجاعته وحبه لوطنه واندفاعه من أجل درء الخطر الصهيوني عنه، وكانت له مشاركة فعالة في مدينته بالثورة التي عمت أنحاء فلسطين.

أما “الزير” فهو من مواليد مدينة الخليل، وعمل في مهن يدوية عدة واشتغل في الزراعة وعُرف عنه منذ صغره جرأته وقوته الجسدية، وشارك في المظاهرات التي شهدتها المدينة احتجاجًا على هجرة الصهاينة إلى فلسطين.

أما جمجوم فهو ينحدر من مدينة الخليل دراسته الابتدائية فيها، وعندما خرج إلى الحياة العامة عاش ظلم الانتداب، فكان يتقدم المظاهرات احتجاجًا على اغتصاب أراضي العرب، وكانت مشاركته بالثورات دفاعًا عن المسجد الأقصى مما جعل القوات البريطانية تقدم على اعتقاله.

كيف تم الإعدام؟

حددت سلطات الانتداب يوم 17 يونيو من عام 1930، موعدًا لتنفيذ حكم الإعدام بحق هؤلاء الأبطال، في وقت تحدّى فيه هؤلاء الشهداء الخوف من الموت.

وكان “جمجوم” يزاحم “الزير”؛ حيث يريد كل منهما أن يكون أول من يتم تنفيذ الحكم فيه غير آبهٍ بالموت، وكان له ما أراد، أما عطا فطلب أن ينفذ حكم الإعدام به دون قيود إلا أن طلبه رفض فحطم قيده وتقدم نحو حبل المشنقة رافعًا رأسه.

وصايا قبل الموت

وقبل إعدام حجازي كتب وصيته بخط يده وبعثها لصحيفة اليرموك التي نشرتها يوم 18/6/1930 وقال في ختامها: “إن يوم شنقي يجب أن يكون يوم سرور وابتهاج وإقامة الفرح يوم 17 يونيو من كل عام، إن هذا اليوم يجب أن يكون تاريخيًا تلقى فيه الخطب وتنشد الأناشيد على ذكرى دمائنا المهراقة في سبيل فلسطين والقضية العربية”.

وتحققت وصيته واعتمد يوم استشهادهم يومًا للشهيد الفلسطيني يحتفل به سنويًا كما خلده الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان في قصيدته الثلاثاء الحمراء.

أما محمد جمجوم ثاني الشهداء فقد طلب حِنّاء ليخضب بها يديه على عادة أهل الخليل في الأعراس والأفراح، وطلب من رفيقه عطا الزير أن يُشْنَق قبله فسمح له، وعند ذلك حطم قيده بيده وتقدم للمشنقة ثابت الخطى مرفوع الرأس، حسب ما يقول رواة الحادثة.

أما ثالث الشهداء عطا الزير فخضّب يديه بالحناء وعندما قاده سجانوه للمشنقة طلب أن تفك قيوده، لأنه لا يخشى الموت وعندما رفض طلبه حطم سلاسله بالقوة وتقدم للمشنقة.

وقد خلّدت هذه القضية في الذاكرة الوطنية لدى الفلسطينيين الذين ما فتئوا ينشدون “يا ظلام السجن خيم” القصيدة التي ألفها الشهداء داخل السجن ويستذكرون بطولة الشهداء الثلاثة الذين يرقدون بالمقبرة الإسلامية في عكا.

رسالة الشهداء للحكام العرب

 

وسُمح للثلاثة أن يكتبوا رسالة في اليوم السابق لموعد الإعدام، جاء فيها “الآن ونحن على أبواب الأبدية، مقدمين أرواحنا فداء للوطن المقدس، لفلسطين العزيزة، نتوجه بالرجاء إلى جميع الفلسطينيين، ألا تُنسى دماؤنا المهراقة وأرواحنا التي سترفرف في سماء هذه البلاد المحبوبة، وأن نتذكر أننا قدمنا عن طيبة خاطر، أنفسنا وجماجمنا لتكون أساسًا لبناء استقلال أمتنا وحريتها وأن تبقى الأمة مثابرة على اتحادها وجهادها في سبيل خلاص فلسطين من الأعداء. وأن تحتفظ بأراضيها فلا تبيع للأعداء منها شبرًا واحدًا، وألا تهون عزيمتها وألا يضعفها التهديد والوعيد، وأن تكافح حتى تنال الظفر”.

وأضافوا: لنا في آخر حياتنا رجاء إلى ملوك وأمراء العرب والمسلمين في أنحاء المعمورة، ألا يثقوا بالأجانب وسياستهم، وليعلموا ما قال الشاعر بهذا المعنى: .. ويروغ منك كما يروغ الثعلب.

وقد خلد الشهداءَ الثلاثة الشاعرُ الفلسطيني إبراهيم طوقان في قصيدته (الثلاثاء الحمراء)، وغنتها فرقة العاشقين ويقول مطلعها: كانوا ثلاثة رجال يتسابقوا ع الموت أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد وصاروا مثل يا خال، طول وعرض لبلاد”.