العدسة: محمد العربي

لم يكن أحد يتوقع أن تشهد دولة الإمارات العربية المتحدة هذا التحول الدراماتيكي في سياساتها الخارجية بعد وفاة مؤسِّس الدولة الشيخ زايد آل نهيان، فحتى الفترة قبل عام 2004 كانت الإمارات الدولة المعتدلة التي يلجأ إليها باقي الدول للاستفادة من حكمة رئيسها وماله أيضًا، وهو ما حافظ عليه الراحل زايد بوقوفه في مسافة وسط بين جميع الأطراف، إلا أنّه مع وفاة المؤسِّس تحولت الإمارات لغول بشع على يد نجله الثاني محمد بن زايد، ولي العهد، من الرجل الثاني إلى الأول في كل شيء، ورفع سلاح “ما لا يأتي بالمال.. فالمؤامرات هي الحل”.

البداية داخلية:

كانت بداية “بن زايد”، الذي يتولى أيضًا وزارة الدفاع والقوات المسلحة بجانب منصبه كولي لعهد أبو ظبي، بتهميش دور رئيس الإمارات الجديد الشيخ خليفة، والذي استجاب طواعية لتحركات أخيه الأصغر غير الشقيق، فآثر الانزواء مكتفيًا بالظهور في المناسبات الرسمية، إن سمح له الأخ الأصغر بذلك. وفي نفس الإطار وزع ولي العهد إخوته الأشقاء على المناصب الهامة بالدولة ما بين الداخلية والمالية والدفاع والخارجية، وهي وزارات مركزية تخضع لها باقي الولايات، مستغلًا الدعم اللامحدود من والداته الشيخة فاطمة بنت مبارك، التي كانت تمثل القوة الأكبر تأثيرًا بالإمارات في عهد الشيخ زايد، وبسببها تم تهميش الشيخ خليفة ووضعت مفاتيح الإمارات في يد الشقيق الأصغر وباقي إخوته الأشقاء.

وقد استغلَّ “بن زايد” الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2007، ليقوم بترويض أهم منافسيه داخل الإمارات وهو الطموح محمد بن راشد الذي يعد صاحب الطفرة الهائلة بدبي، ومقابل دعم أبو ظبي لدبي تخلي ابن راشد عن مقوِّمات نجاح إمارته لصالح “بن زايد”، الواحدة تلو الأخرى، ليتحول الشيخ المنافس لأحد تابعي الشيخ الصاعد.

وقد استمع “العدسة” لشهادات عديدة عاصرت تطور الإمارات والدور الذي كان يلعبه أبناء زايد، وأكدت الشهادات أن الشيخ زايد كان حريصًا على أن يتعلم أبناؤه القيم العربية والإسلامية، ومن أجل ذلك استقدم عشرات المختصين في مختلف المجالات ليكونوا مربين ومستشارين، وكان أغلبهم من مصر، إلا أنَّ الزوجة النافذة الشيخة فاطمة كانت لها رأي آخر؛ حيث رأت في نجلها الأكبر طموحًا ليس له مثيل ليكون رقم واحد في الدولة الغنية بالنفط، ومن هنا كانت تسير في مجال تربية أبنائها في خط آخر مواجِه لخط زوجها، ومارست مع أبنائها خطة خداع ضد الشيخ زايد الذي كان يتصل بالعالم من خلال شاشات التلفزيون الموجَّه داخل قصره، للحدّ الذي وصل بهم لعمل بثّ خاص لقناة أبو ظبي الفضائية يشتمل على قراءة القرآن والدروس الدينية والأغاني الوطنية فقط، وهو البثّ الذي كان خاصًا بقصر الشيخ الراحل، بينما كان البثّ الأساسي مختلفًا ويعلن عن تغيرات كبيرة في دولة الصحراء.

تجارة السلاح

التحول الأساسي لـ”بن زايد” كان بتولّيه وزارة الدفاع الإماراتية؛ حيث بدأت علاقاته تتصل بالبنتاجون الذي رأي في الشيخ الشاب طموحًا لأن يكون رجل الإمارات الأول، ومن هنا تمّ اكتمال الدائرة الخفية التي صنعها البنتاجون من خلال شركاته الخاصة، وبات “بن زايد” أحد أهم ثلاثة في تجارة السلاح بمنطقة الشرق الأوسط؛ حيث تشارك مع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، والعاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، في تشكيل ثلاثي هام لبيع الأسلحة الأمريكية للدول المحظور عنها السلاح، ولعب “بن زايد” على وجه التحديد دورًا في توريد السلاح للقبائل الإفريقية المتنازعة في كينيا وروندا وإثيوبيا والسودان وغانا، وهو السلاح الذي كان يذهب للقبائل أو الحكومات المناهضة للمسلمين في القبائل الأخرى، ومن هنا عرض “بن زايد” نفسه كهدية للمشروع الصهيوني بدعم كبير من مبارك الذي فتح له خطوط الاتصال المباشرة مع أصدقائه الإسرائيليين.

وطبقًا للمختصين فإنَّ ما سبق يؤيده الرفض الإماراتي للربيع العربي منذ اليوم الأول، وخاصة بمصر التي فاز الإخوان فيها بمنصب الرئيس، فأطلقت الإمارات يد ضاحي خلفان، ليشِنّ هجومًا لاذعًا على الإخوان والرئيس محمد مرسي، ورغم أنّ خلفان قد ترك منصبه كرئيس لشرطة دبي وقتها، إلا أنه كان يحصل على دعم غير متناهٍ من ولي العهد، ونتيجة لهذا التصعيد شنّت الإمارات حربًا على جمعية الإصلاح القريبة من الإخوان، واعتقال مؤسسها وقيادات فيها وسحبت منهم الجنسية، واعتقلت عشرة من الإخوان المصريين العاملين في مجالات مختلفة بالإمارات، وبعد انقلاب 3 يوليو 2013، شنّت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة ضد كل من كان قريبًا من الإخوان فكرًا أو تنظيميًا، وخاصة الذين ينتمون لمصر، بعد أن تم تبادل ملفات على أوسع نطاق بين الأجهزة الأمنية بالبلدين.

وخلال حكم الدكتور محمد مرسي ذهب وفد رفيع لدولة الإمارات ضم مساعد رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية عصام الحداد، ورئيس ديوان رئيس الجمهورية السفير رفاعة الطهطاوي، لفضّ الاشتباك بين الدولتين، وانتظر الوفد المصري لقاء محمد “بن زايد” الذي تحجَّج بأنه مشغول، وأنّ البرتوكول يخوِّل لرئيس الوزراء محمد بن راشد مقابلة الوفد المصري، وعلى مدار يومين حاول المصريون نزع فتيل الأزمة وإعادة الدفء للعلاقات المصرية الإماراتية، ملِحّيين على مقابلة “بن زايد” باعتباره صاحب المفتاح، ولكنّه لم يقابلهم إلا لعدة دقائق في المطار أثناء توديعهم.

الصهيوني المدلّل

ويستدلّ المختصون على عمالة “بن زايد” لصالح المشروع الصهيوني باستعانته بأبرز مستشاريه وهو محمد دحلان، المنشق عن حركة فتح وصاحب التنسيق الأمني ضد الفلسطينيين، والسبب الرئيسي في المقاطعة الدولية لحكومة إسماعيل هنية وعزل قطاع غزة ومحاصرته، واستدلوا كذلك بالفضيحة الشهيرة عام 2008 لجمعية الهلال الأحمر الإماراتي التي أرسلت سيارات إسعاف ومعدات إغاثية لقطاع غزة، وعند تفتيشها في الجزء الفلسطيني من معبر رفح تبيَّن أنها أجهزة ومتفجرات أرسلتها الإمارات لأنصار دحلان للانقلاب على هنية وحماس.

وحسبما أكّدت العديد من الدراسات التي تناولت تطورات الحكم بدول الخليج، فإن الحالة الإماراتية تستحق التوقف، حيث وجد حاكم الإمارات الفعلي “بن زايد” الذي حصل على تعليمه في كليّة «ساندهرست» البريطانيّة، طبقًا لنظام البرامج الخاصة، أن البترول ليس كفيلًا بأن يكون هو الرجل الأول لأمريكا في المنطقة، وبالتالي وجد في إسرائيل المدخل المناسب للوصول للبيت الأبيض وباقي مراكز صناعة القرار الأمريكية، ولذلك جاء موقف “بن زايد” لصالح المشروع الصهيوني في كل مراحل الصراع العربي الإسرائيلي التي عاشها، وبسبب دعمه وصمته تمّ اغتيال القيادي القسامي محمود المبحوح بدبي عام 2010، وعن طريقه أيضًا تم دعم عناصر النخبة التي شكّلها دحلان واستقرّت بسيناء بعد معركة الحسم، بتنسيق كامل مع النظام المصري.

وتشير الدراسات كذلك أن “بن زايد” وزّع خطوط تحالفاته وتمويله على عدد كبير من المراكز والمؤسّسات الصهيونيّة التي تُعْنَى بالسياسة الخارجيّة. واستعان بيوسف العتيبة (صاحب التسريبات الشهيرة) ليكون همزة الوصل مع واشنطن، وقام الأخير بتوثق علاقات سيده مع منظّمة الدفاع عن الديمقراطيّات؛ كبرى المنظمات الصهيونية العاملة بأمريكا ضد الإسلام، ويتخصص برنامجها في التصدّي لإيران وسوريا وحزب الله وحماس.

كما أغدق “بن زايد” بأموال النفط الإماراتي على مراكز أبحاث أخرى مثل «أتلانتك كاونسل» و«بروكنز» ومؤسّسة «راند» ومركز «الدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة» ومركز «أسبن» و«أمريكان بروغرس» ومركز «ستمسن» و«معهد الشرق الأوسط»، وهي المراكز التي تمثل عصب صناعة الرأي بالولايات المتحدة، ويتحكم الصهاينة في إداراتها بشكل كامل، ولذلك لم يكن غريبًا أن تحظى الدراسات أو المقالات الصادرة عن هذه المراكز بمساحات نشر كبيرة في مختلف الإصدارات الصحفية الإماراتية.

 

الزعامة العربية:

ويرى المختصون أنّ الدعم الذي يقدِّمه “بن زايد” لصالح رئيس الانقلاب بمصر، وكذلك العلاقات المتينة التي تجمعه بولِيّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وضلوعه في العديد من المؤامرات والانقلابات على دول الجوار، وسيطرته على اليمن ومعظم الموانئ العربية بالبحر الأحمر والقرن الإفريقي، إنما يهدف لتطبيق الخطة الصهيونية بأن يصبح “بن زايد” رجل المنطقة الأول وصاحب النفوذ بين الدول العربية، وهو ما تريده إسرائيل التي تسعى للسيطرة على الوطن العربي من خلال أحد أفضل عملائها بالمنطقة.

ويدعم ذلك الدور الذي لعبه شيطان العرب (كما يحب أن يطلق عليه) في قبول الغرب بالسيسي، والآن قبول أمريكا بالفتى الطامح محمد بن سلمان ليكون حاكمًا للمملكة السعودية، وبالسيطرة على أهم دولتين عربيتين يكون “بن زايد” قد حقق حلم أمِّه فاطمة بأن يكون رقم واحد، أيًّا كانت الطرق التي يسلكها أو الوسائل التي يستخدمها.