العدسة – معتز أشرف:
في تقدير موقف مهم صادر عن مركز كارنيجي للدراسات في الشرق الأوسط، توقف بيري كاماك الخبير في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي عند تحركات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة، خاصة فيما يخص مواقفه الخارجية والتي وصفها بأنها مزيج خطير قابل للاشتعال، وهو ما نسلط الضوء عليه.
مقاربة مفضوحة!
تقدير الموقف الذي وصل ” العدسة” يرى أنه بعد ثمانية عشر شهرًا في سدّة الرئاسة، بدأت مقاربة ترامب للسياسة الخارجية تتّضح للعيان، فقد استثمر في قادة مثل بوتين، والرئيس الصيني شي جي بينغ، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج-أون، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بدبلوماسية رئاسية تجد ما يُبرّرها في كل واحدة من الحالات، إلا أنّ ترامب لا يسعى خلف المجهود الدبلوماسي التدريجي، فالمفاوِض الأكبر في العالم يريد صفقات، وأيّ صفقة أفضل من عدم التوصل إلى صفقات على الإطلاق، فيما يشير إلى أن ترامب يريد التفرد بصفقة كبرى مع روسيا، واتفاق نووي مع كوريا الشمالية، وصفقة تجارية مع الصين، واتفاق سلام في الشرق الأوسط، ويمكن له أن ينجح فالنجاح ليس متعذّرًا في هذه الأجواء.
ولفت التقدير الانتباه إلى أنه لم تُقدَّم بعد أدلة مباشرة تُثبت أن موسكو تملك معلومات محرجة وفاضحة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأنه تواطأ مع روسيا خلال الحملة الرئاسية الأمريكية في العام 2016، لكن بعدما وقف ترامب إلى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي يوم الاثنين، وألقى باللائمة على بلاده في الهجوم السيبراني الروسي على الولايات المتحدة، لم يعد ممكنًا إسقاط هذا الاحتمال من الحسابات، أما البديل، أنّ شعور ترامب غير المفهوم بعدم الأمان ورغبته النرجسية في إبرام الصفقات هما ما سمحا له بتقديم المصالح الروسية على المصالح الأمريكية، فبالكاد يمنح شعورًا أكبر بالارتياح. وأيًا كانت دوافع ترامب، لن تنتهي القصة، ولا الأضرار المحتملة في هلسنكي.
تقييم نايت سليفر
وتوقف تقدير الموقف عن تقييم نايت سليفر – أشهر المتوقّعين السياسيين في أمريكا– في أغسطس 2015، الذي اعتبر فيه أنّ لدى ترامب حظوظًا بنسبة 2 % للفوز بترشيح الحزب الجمهوري فما بالكم بإلحاق الهزيمة بهيلاري كلينتون، موضحًا أنه جرى التقليل من شأن ترامب في كل خطوة من خطوات صعوده السياسي الصاروخي.
وأضاف أن مساعي ترامب المتعلّقة بالسياسة الخارجية – بدءًا من هجماته على حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، مرورًا بالاجتماعين اللذين عقدهما مع كلٍّ من بوتين وكيم، ووصولًا إلى جهوده على الجبهة الإسرائيلية- الفلسطينية– تعرضت لانتقادات شديدة من المعلّقين، معتبرين أنّ مصيرها المؤكّد هو الفشل، ولكن حان الوقت للإقرار بأنّ سلوك ترامب غير مسبوق وغير قابل للتوقع إلى درجة أننا نفتقر إلى القدرة على تقييم نتائجه كما قام نايت سليفر.
وأوضح أن ترامب يعتبر أن جوهر أفعاله غير مهم مقارنةً مع وقع هذه الأفعال على قاعدته الشعبوية، فهو مستعدّ للقيام بأي شيء تقريبًا من أجل الهيمنة على الدورة الإخبارية، بيد أنَّ مسائل السياسة الخارجية التي يخوض فيها– مثل البرنامج النووي الإيراني والبرنامج النووي الكوري الشمالي، والحرب في سوريا، والعلاقات مع الصين وروسيا– معقّدة، ومتعدّدة الأوجه، وتتطلب إدارةً ثابتة الخطى تشقّ طريقها بجهد وتروٍّ، من النوع الذي يزدريه ترامب.
هاجس التجارة!
وأشار مركز كارنيجي في تقديراته إلى أنّ ترامب مسكون بهاجس التجارة (والهجرة) أكثر من أي شيء آخر، لكن نظرًا إلى حجم الاقتصاد الأمريكي، تُعدّ التجارة أقل أهمية لأمريكا مما هي عليه بالنسبة إلى أي بلد آخر في العالم تقريبًا، فعلى سبيل المثال، تبلغ حصة التجارة من إجمالي الناتج المحلي 37 % في الصين و84 % في أوروبا، إنما 26 % فقط في الولايات المتحدة، مع ذلك، يتحدث ترامب عن التجارة، والإجحاف في الترتيبات التجارية الأمريكية، أكثر من أي قائد أمريكي آخر في الذاكرة، ومن أيٍّ من نظرائه المحتملين.
وأضاف أنّ دونالد ترامب ينظر بازدراء إلى المصالح القومية الأمريكية التقليدية، فهو رئيس مفتون بالسلطوية، ويعتبر أن معظم الالتزامات الاقتصادية والأمنية الأمريكية التقليدية لا تُحتمَل. يُضاف إلى ذلك أنه لا يثق، غريزيًا، بتعدّد الأطراف، وصحيحٌ أن أسلافه غالبًا ما أُصيبوا بالإحباط بسبب تعدّد المصالح العالمية المتقاطعة للولايات المتحدة، وكان هناك اختلافٌ فيما بينهم حيال طريقة ترتيبها ضمن الأولويات ودعمها، إلا أنهم أدركوا أهميتها.
وشدد مركز كارنيجي أن ترامب يتعاطى مع السياسة الخارجية بالطريقة نفسها التي يتعاطى بها مع السوق العقاري في منهاتن، فهو، لتمويل إفلاساته، يستفيد من المال الموروث والقروض والمتاجرة بالأصول، حيث ورث الحلف عبر الأطلسي، والشراكات الأمنية، والمؤسسات التجارية، والسيادة على الأراضي، والوجود العسكري الأمريكي حول العالم، والالتزامات المنصوصموسكو عليها في المعاهدات، لكن إذا لم يكن ترامب وفيًا لسبعين عامًا من المكتسبات المتراكمة على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية، فهو لن يتورّع عن المتاجرة بها أو التخلي عنها.
مركز كارنيجي دقّ ناقوس الخطر إزاء تلك المواقف، مؤكدًا أنه بإضافة كل تلك المكوّنات إلى بعضها البعض، نحصل على مزيج قابل للاشتعال، لكن بالنسبة إلى خصوم أمريكا (وأصدقائها في الشرق الأوسط)، يمكن أن تقدّم إمكانية قيامها بمقايضة مصالحها الاستراتيجية باتفاقات سياسية قصيرة المدى، فقد تكون فرصة العمر.
سيناريوهات ترامب!
وتوقع تقدير الموقف العديد من السيناريوهات؛ ففي سوريا يشير إلى أنه قد تبيّن أن دمشق عصيّة على التسوية السياسية بسبب وكر الدبابير المتمثل في الأولويات الإقليمية المتضاربة هناك، لكن أن قامت الولايات المتحدة بعدم الاعتراض على التوصّل إلى تسوية مع الرئيس السوري بشار الأسد، وغض الطرف عن المصالح الأردنية وحتى الإسرائيلية فقد تبرز ملامح صفقة روسية- أمريكية، تتمّ بموجبها (مؤقتًا) مقايضة الوجود الإيراني على مقربة من الحدود الإسرائيلية بسحب القوات الأمريكية (بصورة دائمة) من شرق البلاد.
وفي أوروبا يرى المركز في تقديره أن ترامب قد يعترف بضم روسيا غير القانوني للقرم أو الوضعية العسكرية الأمريكية في أوروبا، وهو ما يؤدي إلى إجراءات هائلة من الترتيبات الأمريكية-الروسية المحتملة، مشيرًا إلى أنّ ترامب صدّق كلام بوتين بأنه لم يتدخّل في الانتخابات الأمريكية، فما الذي يمنعه من السعي إلى إبرام صفقة من شأنها أن تُكرّس هذه الضمانات؟
وفيما يخص الصين يشير المركز إلى أنّ تهديدات ترامب مؤخّرًا بخوض حرب تجارية مع الصين تقدم دليلًا واضحًا جدًّا على سعيه للتوصل إلى صفقة؛ حيث حصلت المبادرة التي تحمل بصمة شي جين بينغ الخاصة، والمعروفة بـ”مبادرة الحزام والطريق”، على زخم كبير بفعل انسحاب ترامب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، غير أن الدعم الأمريكي لحرية الملاحة الدولية كبحَ إلى حد كبير طموحات بيج ينج في بحر الصين الجنوبي.
ويتوقع المركز أنه لا يوجد ما يمنع ترامب من التفكير في التخلّي عن الالتزامات الأمنية الأمريكية في شرق آسيا من أجل والتوصل إلى صفقة مع كوريا الشمالية والصين، فيما يرَى المركز بخصوص الصراع في الشرق الأوسط أنه رغم وجود إجماع شبه كوني بأن من المستحيل إحراز تقدّم نحو التوصل إلى تسوية إسرائيلية- فلسطينية نهائية غير أن ترامب يبدو متلهّفًا لإزالة الفلسطينيين تمامًا من المشهد.
اضف تعليقا