العدسة: محمد العربي

في الثالث والعشرين من يوليو الجاري حلت الذكري 66 لحركة ضباط 1952، وهي الحركة التي تطورت لثورة أيدها الشعب المصري وأصبحت فيما بعد أم الثورات التحريرية في الوطن العربي والمحيط الإفريقي والأسيوي، وتمثل حركة يوليو كما اجتمع عدد غير قليل من المؤرخين علي تسميتها، تمثل أهمية كبري في نظرية تطور الحكم والصراعات الأيدلوجية التي ظهرت حدتها بعد ثورة 25 يناير 2011، وتولي الإخوان المسلمين زمام الحكم بعد فوز ممثلهم محمد مرسي برئاسة الجمهورية بانتخابات شعبية، بينما خرج مرشح الناصريين من السباق في جولته الأولي، لتعيد هذه المرحلة فتح الجروح بين الناصريين والإخوان ومن الذي انتصر في هذا الصراع السياسي والأيديولوجي.

صناعة الانقلابات

يمثل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مدرسة متفردة في ترسيخ مفاهيم الإنقلابات العسكرية في المنطقة العربية، حيث لعب من تحت الستار وأعلاه أدورا واضحة وأخري سرية في تغير تركيبة الحكم بالوطن العربي، ولذلك لم يكن غريبا أن تشهد فترة ستينيات القرن الماضي انقلابات شبه يومية في دول مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان، ولبنان، وتزعزع بأركان الحكم في دول أخري ذات أنظمة مستقرة مثل الأردن والسعودية.

ولأن عبد الناصر لعب دورا في ذلك فقد أكد كثير من المفكرين والمؤرخين أن ناصر يمثل الأب الروحي للانقلابات العسكرية بالمنطقة، ولأنه كان ذائع الصيت في مجال التحرر الوطني ومحاربة الاستعمار، كان صاحب الأسم الاشهر بين مواليد الدول العربية في هذه الفترة.

ومن هنا كان التساؤل لماذا لم يحقق عبد الناصر صاحب هذه المدرسة السياسية والعسكرية والإيدولجية نجاحا بعد رحيله في استمرار منهجه الاشتراكي الناصري، بينما نجح تيار آخر كان العدو الأول لعبد الناصر، في هذه المعادلة رغم ما تعرض له قياداته من سجن واعتقال واغتيال، والمقصود هنا هم الإخوان المسلمين؟!

الإجابة علي الشق الأول من السؤال أجاب عليها الكاتب الصحفي عبد العظيم حماد في مقال له بجريدة الشروق المصرية الخميس 19 يوليو الجاري، تناول فيه تجربة حركة الضباط الأحرار عام 1952، وانتهي حماد الذي انتمي للتيار الناصري في فترة من عمره، إلي أن منظومة الحكم التي خلفتها حركة الضباط يوليو كانت هشة أو حسب توصيفه تمثل “حصاد الهشيم”، ووضع حماد مقارنة بين الدول الأسيوية والإفريقية واللاتينية وحتي الأوربية الشرقية التي حصلت على استقلالها في نفس الفترة التي قامت بها حركة الضباط الأحرار، ورغم ذلك تفوقت هذه الدول على الدول العربية وصنعت لأوطانها نظم حكم مؤسسية ومدنية انتشلتها من آثار الاستعمار ونتائج الحربين العالميتين الأولي والثانية، بينما ظلت الأنظمة والحكومات العربية تبرر فشلها بالمؤامرات العالمية والدولية التي لا تريد للعرب التقدم والنمو.

وعقد حماد مقارنة بين تطور الحكم في مصر وإسرائيل موضحا أن ضباط يوليو (الوطنيين !) استولوا على السلطة للثأر من هزيمة الجيش المصرى أمام الإسرائيليين فى حرب 1948، وذلك عن طريق بناء دولة مستقلة وحديثة وديمقراطية فى مصر، وهو ما لم يحدث حتى ساعتنا هذه، بل حدث العكس، الذى حولها إلى أشلاء دولة، أو شبه دولة!، موضحا أنهم أدخلوا مصر فى حلبات الصراعات الاقليمية والدولية، وأردوها فى وهدة هزيمة عسكرية شائنة أمام إسرائيل، والأخطر أنهم قضوا قضاء مبرما على كل قيم ومؤسسات الحداثة، وحولوا بمرور الوقت، وتعاقب عهودهم ما كان مشروعا للاحياء الوطنى إلى احتكار سلطوى.

لماذا الإخوان

بعد 66 عاما على حركة يوليو يظل السؤال مطروحا: لماذا هذا العداء الناصري لجماعة الإخوان المسلمين، وقد أجاب علي ذلك عددا من الذين عايشوا حركة يوليو وكانوا ضمن أحداثها مثل الدكتور الراحل محمد فريد عبد الخالق والسفير وحيد رمضان مدير مكتب الرئيس الراحل محمد نجيب وزميل عبد الناصر في أسرته الإخوانية، وكمال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرؤوف وصلاح شادي وغيرهم من الذين كانوا طرفا أساسيا في هذه المرحلة.

وطبقا لشهادات استمع إليها ” العدسة ” من السفير وحيد رمضان فإن عبد الناصر كان يري في الشيخ حسن البنا نموذجا ومثالا، باعتباره شابا استطاع أن يؤسس جماعة كبيرة بحجم الإخوان تمتاز بالإنضباط والوطنية، ولكن هذا الإعجاب كان لأهداف خاصة بعبد الناصر فهو يريد أن يكرر التجربة ويكون هو الشخصية القائدة، ومن هنا كان خلافه مع المرشد العام الثاني حسن الهضيبي الذي تولي مسئولية الجماعة بعد اغتيال الإمام البنا.

وتشير الشهادة أن منهج الإمام البنا اعتمد على التطور التدريجي في التغيير أو ما يعرف لدي الإخوان ببناء الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة، وهو المنهج الذي يحتاج لنفس طويل حتي يصل لمبتغاه في الإصلاح، وهو ما كان يرفضه عبد الناصر الذي أسس مدرسته على الولاء بصرف النظر عن الانتماء، ولذلك لم يكن غريبا أن تسقط النظرية الناصرية بعد رحيل عبد الناصر مباشرة، بينما استمرت الدعوة الإخوانية رغم ما أصابها من كبوات.

وفاق من أجل المصلحة

ويشير المختصون أن الفترة التي اعقبت انتخابات مجلس الشعب 1995 شهدت تقاربا كبيرا بين التيارين الإخواني والناصري، وقد كانت القضية الفلسطينية ثم الحرب على العراق وحصار السودان، أسبابا واضحة في هذا التقارب الذي دفع برئيس الحزب العربي الناصري ضياء الدين داود أن يقدم اعتذارا للإخوان عما جري معهم على يد نظام عبد الناصر في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهو الاعتذار الذي قدمه ايضا الإعلامي الشهير حمدي قنديل، وكذلك نائب رئيس الجمهورية الأسبق حسين الشافعي، وغيرهم من القيادات الناصرية المصرية والعربية، وهو ما كان سببا في تشكيل التيار القومي العربي ثم التيار القومي الإسلامي الذي تولي فيه القيادي الإخواني عصام العريان مسئولية أمانته العامة.

كما كان التصدي لنظام مبارك سببا في زيادة التقارب بين الطرفين، مما جعل تيار الكرامة برئاسة القيادي الناصري محمد سامي يتولي رعاية المؤتمر العالمي ضد الإمبرالية الأمريكية والصهيونية العالمية، وهو المؤتمر الذي عقد بالقاهرة لثلاثة دورات متصلة، كان يمثل قمة التنسيق بين الناصريين والإسلاميين، الأمر الذي دفع بالقيادي الناصري حمدين صباحي لزيارة مكتب الإرشاد في 2010 وتقديم التهنئة للمرشد العام وقتها محمد بديع لتوليه منصبه، وعرض حمدين نفسه مرشحا شعبيا لمواجهة حسني مبارك، طالبا بشكل واضح دعم الإخوان وإلا فلن يُقدِم علي هذه الخطوة.

لماذا الصدام

السؤال السابق أجاب عليه عدد من القيادات الناصرية الحديثة مثل أمين اسكندر وفاروق العشري وغيرهما والذين أكدوا أن وصول الإخوان للحكم بعد كل الحرب التي جرت ضد الجماعة منذ نشأتها يمثل فشلا ذريعا للتيار الناصري، ويؤكد أن الأطروحات والأفكار والمذاهب التي انتجها هذا التيار كانت كذبة، وبالتالي وصول الإخوان للحكم هو إعلان لوفاة التيار الناصري.

هذه الإجابة التي استمع إليها “العدسة” غير مرة، تشير لحقيقة الصراع خاصة وأنه ليس معنيا بمصر وحدها، وإنما امتد لغيرها من الدول العربية التي يتسابق فيها الإخوان مع تيارات يسارية وعلمانية أخري، وبالتالي فإن انتشار الإخوان وثباتهم ومنافستهم يمثل ضربة قاسمة لجلاديهم السابقين، ولذلك لم يكن غريبا أن يعلن عبد الله السناوي أحد منظري التيار الناصري في المرحلة الراهنة أن ” نار العسكر أرحم لهم من جنة الإخوان”، وانطلاقا من ذلك كان الدعم الشعبي الناصري لانقلاب 2013، ظننا منهم أن السيسي يمكن ان يسلمهم زمام السلطة باعتبار أن عدوهم واحد وهم الاخوان المسلمين، ولكن تأتي النتائج لتشير إلى أن الفكرة ليست في الإيدلوجية الناصرية وإنما في الإيدولجية العسكرية التي لم تفرق بين ناصر أو السيسي في معاداتهم للتيارات الإسلامية، ولذلك يري خبراء السياسية أن الصراع سوف يظل قائما بين المصحف والدبابة حتي تتغير عقلية الشعوب العربية، وتدافع عن خياراتها الديمقراطية كما جري في تركيا مؤخرا.