العدسة – إبراهيم سمعان

يخشى المجتمع البدوي الذي يحظى بشعبية كبيرة في خان الأحمر شرق القدس، من الهدم الوشيك، لكن إلى جانب الجرافات، تنتهج السلطات الإسرائيلية تكتيكًا آخر أكثر تكتمًا تجاه أهالي عشرات القرى البدوية في أنحاء الضفة الغربية، وذلك من خلال إنشاء “بيئة قسرية” تجعل حياتهم غير محتملة في الضفة الغربية، والغرض دفعهم إلى مغادرة أراضيهم الاستراتيجية للغاية.
كان هذا ملخص تقرير نشرته صحيفة “لوريون لو جور” الناطقة بالفرنسية عن سكان قرية خان الأحمر التي ويعيش بها نحو 180 بدويا، يرعون الماشية والأغنام، في أكواخ من الصفيح والخشب، وتسعى سلطات الاحتلال لهدمها.
في يوليو الماضي اندلعت احتجاجات فلسطينية في خان الأحمر مع الشرطة الإسرائيلية، على إثر عزم الأخيرة هدم القرية في تحرك نددت به جماعات حقوقية بوصفه محاولة لتوسيع الاستيطان اليهودي.

وبينما انصب اهتمام النشطاء والدبلوماسيين الأجانب ووسائل الإعلام على القرية، جاءت السلطات الإسرائيلية إلى منزله في أبو نوير وهدمت اثني عشر ملاجئا بالجرافات.
بالنسبة للفلسطينيين، خان الأحمر ليست سوى غيض من فيض، لأنها واحدة من عشرات القرى البدوية في الضفة الغربية المحتلة التي تقع تحت تهديد الهدم.
بعد سنوات من المعارك القانونية، وافقت محكمة العدل العليا الإسرائيلية على هدم خان الأحمر في مايو، حيث تؤكد إسرائيل أن المباني بنيت دون تصريح صادر عن إدارتها العسكرية، المسؤولة عن الشؤون المدنية في المنطقة سي، كما هو منصوص عليه في اتفاقات أوسلو ، التي قسمت الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق ( أيه وبي وسي).
لكن بالنسبة لمنتقدي القرار، فإن هذا الإخلاء يرقى إلى النزوح القسري، الذي يعتبر جريمة حرب، بالإضافة إلى ذلك، يصر المدافعون عن أهالي خان الأحمر على أنه لم يكن لدى القرويين أي خيار سوى البناء دون تصاريح بناء إسرائيلية، حيث الحصول عليها مستحيل.

منذ ذلك الحين علقت المحكمة العليا هدم القرية بعد أن قدم محامون ثلاثة التماسات، إذ تأجل الإخلاء ولم يتم إلغاؤه. وقدمت الدولة للسكان موقعين آخرين: الأول، بالقرب من أحد مدافن النفايات الرئيسية في المنطقة، والثاني بالقرب من محطة معالجة مياه الصرف الصحي.
المحامون الذين يمثلون خان الأحمر، رفضوا العرضين ويواصلون تقديم دفوع جديدة “لا أتوقع أن تعطينا المحكمة الحق، الأمر معقد لدرجة أنه من الصعب عليهم اتخاذ قرار نهائي، آمل أن أؤخر الهدم مراراً وتكراراً” يقول توفيق جبرين، وهو محام يدافع عن مصالح هؤلاء البدو، مضيفا “لكنني قد أكون متفائلا جدا”.

عودة الجرافات

المعركة بين بدو الضفة الغربية والدولة اليهودية ليست حديثة، في أواخر التسعينيات، كانت إسرائيل طردت بالفعل حوالي 150 عائلة من عدة مجتمعات بدوية. وقد أظهرت صور عمليات الإخلاء هذه الاحتلال في أحد أشد أشكاله وحشية، وقد تمكنت ردود الفعل الغاضبة، داخل الحدود الإسرائيلية وخارجها، من وقف حملات هدم واسعة النطاق، وبعد عشرين عاما، عادت الجرافات.


الدعم شبه المشروط من إدارة دونالد ترامب، والذي يتزامن مع أوروبا التي ينظر إليها على أنها ضعيفة بسبب انقسام دولها تجاه السياسات التوسعية الإسرائيلية، مثل فرنسا، وأولئك الذين يؤيدون حكومة بنيامين نتنياهو، كالمجر، يوفر للإسرائيليين فرصة سانحة للاستيلاء على هذه القرى.
بالنسبة لإسرائيل، خان الأحمر، وعشرات آخرين في الضفة الغربية تمثل مصلحة استراتيجية للغاية لمصادرة الأرض، وهي في الواقع جعل القدس الشرقية منفصلة عن بقية الأراضي الفلسطينية وتعزيز توسيع المستعمرات.

كذلك بحسب بعض المنظمات غير الحكومية والدبلوماسيين يهدف الاحتلال إلى تقسيم الضفة الغربية إلى عدد لا يحصى من الجزر، ليمكن السيطرة عليها بسهولة – وبالتالي يجعل من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، إقامة دولة فلسطينية افتراضية.
لكن تدمير القرى بالجرافات وطرد مجموعات كاملة من السكان، يثير غضباً وإدانة دولية، خاصةً في أوروبا الغربية، لذا، فإن السلطات الإسرائيلية تستخدم حتى الآن تكتيك أخر، أكثر سرية: وفقًا للأمم المتحدة، “بيئة قسرية” تجعل حياة هؤلاء البدو غير محتملة، بهدف دفعهم إلى ترك القرية.
“جرائم حرب بتكلفة سياسية أقل”، يختصر الموضوع مراقب دولي، فعلى سبيل المثال، من خلال منعهم من الوصول إلى المياه، والكهرباء العامة ومناطق الرعي، ومصادرة معداتهم وتعليق تصاريح العمل الخاصة بهم، أو إجراء عمليات هدم محدودة لكن بشكل منتظم.
“الفكرة من وراء هذه السياسة هي: سنجعل حياتك كابوسًا طويلًا بما يكفي لكي تقرر المغادرة في النهاية، كما لو كنت بمفردك. إذا ما حدث ذلك، فهو يحمي إسرائيل من الدعاية السيئة لأنها لا تتضمن صورًا للجرافات والجنود الذين يضعون الناس في شاحنات” كما تقول منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان بتسيلم، لكن من وجهة نظر أخلاقية أو قانونية، لا يوجد تغيير في كلتا الحالتين، هي جرائم حرب.

أرض ملغمة

تكتيك إسرائيلي آخر لوضع البدو تحت الضغط المستمر، وفقا للأمم المتحدة، وهو الإعلان عن بعض قراهم كمناطق للتدريب العسكري، عندما تغزو الدبابات الإسرائيلية المكان، يُجبر السكان على ترك كل شيء لعدة أيام، لكن عندما يعودون، ما أن يغادر الجنود، غالباً ما تكون الأرض مليئة بالمتفجرات التي استخدمت خلال المناورات، مع عواقب درامية في بعض الأحيان.

الصيف الماضي، قُتل أودي، وهو مراهق فلسطيني من المجتمع البدوي في إبزيق، بالقرب من وادي الأردن، في انفجار قنبلة يدوية عثر عليها على الأرض بينما كان يرعى قطيعه،  كان عمره 16 سنة.

يقول عزيز نواحة، وهو يمسك هاتفه المحمول ليعرض صورة التقطت في هذا اليوم المظلم: “الآن أعيش في خوف دائم من موت طفلي الآخر” في إشارة إلى ابنه الذي يبدو نائما تحت ظل شجرة زيتون، عمره 20 سنة، شقيق أودي الأكبر، مؤكدا أنه لن يغادر قريته: ” هذه المأساة لم تجعلني أرغب في الرحيل. البقاء هنا هو منافسة مع الإسرائيليين. ”

اليوم، وكي لا تصبح أراضيهم حقول الألغام، فإن البدو يحددون العبوات الناسفة بالحجارة ، يستخدمون العديد من التقنيات للبقاء على قيد الحياة ، في أبو نوار، على سبيل المثال، حيث تم بالفعل تدمير المدرسة الابتدائية عدة مرات، تم تحويل صالون تصفيف الشعر إلى فصل دراسي، و على مر السنين، أصبح بعض القادة ناشطين محترفين حقيقيين يسافرون إلى الخارج للدفاع عن قضيتهم.

“إنها حرب”

باستثناء ما يرون أنه “إستراتيجية قمعية” تقودها السلطات الإسرائيلية لإخراجهم من أراضيهم ، يجب على البدو أيضاً أن يواجهوا بيئة قاسية حتمية، أجبروا على العيش في ملاجئ مؤقتة مصنوعة من الألواح الخشبية والمعدنية القديمة التي لا تحمي من درجات الحرارة المتجمدة في الشتاء أو الخانقة في الصيف أو الثعابين والعقارب والكلاب الضالة.
عندما طرح سؤال لماذا الكفاح من أجل أرض غير مجدية ؟ خلال اجتماع في خربة الرأس الأحمر، بمحافظة طوباس اندلع صخب في المكان وقال أحد الحضور “لأنها أرضنا! مندهش من غباء السؤال. وقال آخر: بما أن الثروة الحيوانية والثقافة مصدران رئيسيان للدخل، فنحن بحاجة إلى هذه الأرض”، فيما رد ثالث “لأن هذا هو بالضبط ما يريده الإسرائيليون إذا غادرنا، سيبنون مستعمرة. هذا سيجعل حياتنا أكثر صعوبة، ولكن أيضا من أجل تلك القرى المحيطة بها، من واجبنا البقاء”.


منذ عام 1948، تم بالفعل طرد بعض السكان البدو من منازلهم مرتين، لذلك لا شك في أن هؤلاء الفلسطينيين سيغادرون للمرة الثالثة.
وقال خالد عبد الله وهو من مواليد خربة الراس الأحمر قبل 65 عاما “هذه ليست معركة تقليدية بين حزبين مسلحين لكنها حرب، إنهم يريدون احتلال أرضنا ، لذلك علينا أن ندافع عن أنفسنا. ليس بالأسلحة، ولكن بتصميمنا”.