العدسة: محمد العربي

لم تكن “كرداسة” الواقعة في الشمال الغربي لمحافظة الجيزة، مدينة عادية، فهي واحدة من القري المصرية التي لها تاريخ نضالي كبير ضد الأنظمة العسكرية المصرية، ولذلك جاء الحكم الأخير بتأييد أحكام الإعدام بشكل نهائي في حق 20 من أبنائها والسجن المؤبد لـ80، والمشدد 15عاما لـ 34، والسجن 10 سنوات لطفل حدث دون 18 سنة، وإيداعه بدار رعاية الأحداث، وبراءة 21 متهمًا.

هذه الأحكام التي أيدتها محكمة النقض المصرية باعتبارها أعلي سلطة قضائية في مصر يوم الاثنين 24 سبتمبر الجاري، كانت في القضية الأكبر والأشهر والمعروفة بأحداث حرق مركز شرطة كرداسة، ومازالت هناك قضايا أخري تنتظر المدينة المغضوب عليها منها قضايا اقتحام كرادسة ومظاهرات كرداسة … إلخ.

تاريخ من الصدام

ويؤكد العديد من أبناء كرداسة الذين تحدث إليهم “العدسة” أن مدينتهم مازالت تتمتع حتي الآن بطباع القري المصرية المحافظة، وقوامها مجموعة من العائلات المتشابكة التي تعمل وفق قيم وتقاليد رسختها طبيعة المدينة التي كانت قبل 13 عاما قرية كبيرة تقع في حضن الصحراء، وهذه العائلات منها ما كان يدين بالولاء لنظام مبارك مثل عائلة الشاعر التي كان من بينها مدير أمن القاهرة الأسبق إسماعيل الشاعر، والذي تم تبرأته ضمن قيادات الداخلية في محاكمة القرن الخاصة بقضية قتل ثوار 25 يناير التي كان علي رأس المتهمين فيها الرئيس الأسبق حسني مبارك.

ومن هذه العائلات ما كان علي النقيض من مبارك ونظامه ولذلك كانوا من أكثر الذين ناصروا ثورة 25 يناير 2011، إلا انه لم يكن من بينهم من يدين بالولاء لرئيس الإنقلاب عبد الفتاح للسيسي، وهو ما كان مثار تساؤلا طرحه “العدسة” علي أبناء المدينة.

الإجابة كانت بسيطة ولكنها كانت في الوقت نفسه مؤلمة بقدر الألم الذي عاشته كرداسة علي مر الحكم العسكري الذي بدأ بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتوقف فترة في عهد الرئيس محمد مرسي، ليعود مرة أخري للعسكر علي يد عبد الفتاح السيسي.

ويشير مؤرخون مصريون تناولوا تاريخ كرداسة أن المدينة التي يسكنها 160 ألف نسمة، شهدت أول صدام مع العسكر عام 1965 في أحداث كرداسة الشهيرة، واستمرت محل غضب الأنظمة الحاكمة بمصر، وما زاد من مأساتها أن الغضب صاحبته حالة الفقر وغياب الخدمات التي تعاني منها معظم القري والمدن المصرية.

وطبقا للمؤرخين الذين عاش عدد منهم في كرداسة ورصد واقعها مثل الكاتب والمؤرخ الإسلامي جابر رزق وكذلك القيادي البارز في الإخوان المسلمين السيد نزيلي والذي كان نجم أحداث 1965، وغيرهم من الذين تناولوا تاريخ كرداسة باعتبارها واحدة من القري المصرية الشاهدة علي ظلم العسكر مثل الكاتب الإسلامي الدكتور محمد عباس والذي خصص جزءا من كتابه “الإخوان المسلمون” الصادر عام 2008″ عن كرداسة أعاد نشره عبر صفحته علي الفيس بوك تزامنا مع الأحداث الأخيرة التي شهدتها المدينة المغضوب عليها.

وطبقا لهؤلاء المؤرخين وغيرهم الذين تحدثوا عن كرداسة، فإن المدينة معروف عن أهلها التدين والمحافظة علي القيم الإسلامية، بالإضافة لارتباطها القوي بقرية ناهيا التي تبعد عنها أمتار قليلة، وهي القرية التي خرج منها أعلام بارزة في الحركة الإسلامية من بينهم الدكتور عصام العريان القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين وأصغر نائب في برلمان 1987 والذي كان يمثل فيه ناهيا وكرداسة، والشيخ عبود الزمر وابن عمه طارق الزمر واللذان تم اتهامها في عملية اغتيال السادات وأطلق سراحمها بعد ثورة يناير 2011، ليقضوا فترة حكم حسني مبارك كاملا في السجون المصرية، ويضاف لهم النجم الكروي الأشهر في مصر والعالم العربي محمد أبو تريكة.

ويري المؤرخون أن هذه الطبيعة الإسلامية لكرداسة جعلتها محل غضب الأجهزة الأمنية، فهم يُحمِلون القرية مسئولية مقتل الرئيس السادات، كما يحملونها أيضا أنها كانت أحد الداعمين لرموز الإخوان المسلمين خلال حكم عبد الناصر، بل وفي أشد فترات قسوته علي الإخوان عام 1965.

ويشير المحللين أن الأسباب السابقة تبرر الإنتماء الشديد لأبناء كرداسة للدكتور محمد مرسي والذي اعتبروه الملاذ الآمن لهم بعد الاضطهاد المستمر الذي عانوا منه طوال أكثر من 60 عاما.

البداية بعريس كرداسة

وتشير شهادات كل من الدكتور محمد عباس والقيادي التاريخي في الإخوان السيد نزيلي والكاتب والمؤرخ جابر رزق أن بداية الصدام مع الدولة المصرية كانت عام 1965، حيث تصدي أهالي قرية كرداسة بكل طوائفهم وأعمارهم وشخصياتهم ورجالهم ونسائهم لقوات الأمن التي تخفت في زي مدني لاعتقال أحد شبابها الذي كان لتوه عريسا حديثا وهو الشاب السيد نزيلي، وعندما لم تجده قوة الشرطة العسكرية التي ذهبت للقبض عليه، حاولوا اعتقال زوجته التي لم يمر علي زفافها سوي تسعة أيام، وأمام صرخات أهل بيت نزيلي تجمع أبناء القرية، الذين قابلتهم القوة العسكرية بإطلاق الرصاص لارهابهم، وفي يدهم زوجة النزيلي وشقيقه عبد الحميد كرهائن لحين تسليم نفسه للأمن الحربي.

وتشير الشهادات أن أهالي القرية اشتبكوا مع القوة الأمنية التي كانت ترتدي زيا مدنيا ظنا منهم أنهم جاءوا ليخطفوا عروس النزيلي القاهرية، وبدأ الرجال والنساء والأطفال والشيوخ في حملة الدفاع عن عرضهم، مما أدي لهروب رجال الأمن، وما هي إلا ساعات حتي حاصرت قوات الجيش والشرطة القرية بالمصفحات والدبابات وفرضوا حظر التجول، وألقوا القبض على عمدة القرية ومشايخها والخفراء وشيخ الخفراء وجميع عائلة العمدة التي كانت من أكبر عائلات القرية، وربطوهم جميعا بالحبال وساقوهم كالبهائم، واخرجوا النساء في قمصان النوم نصف عرايا، واتجهوا بالجميع إلى نقطة القرية وانهال عليهم الأمن ” بالكرابيج ” والعصي بلا رحمة وبلا اعتبار لأي قيمة إنسانية، ومزقوا ثياب الرجال وتركوهم عرايا كما ولدتهم أمهاتهم أمام الزوجات والأطفال!!

ثم أخذوهم في طابور كأسرى الحرب أمام الأهالي وأركبوهم سيارات مكشوفة طافت بهم شوارع القرية الرئيسية وهم يضربون النساء والأطفال بالسياط ليعلو صراخهم إمعانا في إرهاب أهالي القرية، وبعدها ذهبوا بهم للسجن الحربي، ليتعرضوا لتعذيب لم تعرفه مصر من قبل علي يد سفاح عبد الناصر حمزة البسيوني.

سيناريو متكرر

وتشير الروايات التاريخية السابقة إلي أن السيناريو تكرر مرة أخري مع القرية التي تحولت لمدينة، ولكن ظل الاضطهاد الرسمي لها، فما حدث 1965 تكرر في 19 سبتمبر 2013، خلال اقتحام الامن للمدينة بهدف اعتقال الرجال والنساء والأطفال ردا علي حرق مركز الشرطة في الأحداث التي تلت الانقلاب العسكري الذي جري في 3 يوليو 2013.

وتؤكد الشهادات التي استمع إليها “العدسة” من شباب ورجال كرداسة، أن الإرهاب ضدهم لم يتوقف عند اقتحام المدينة وانتهاك حرمتها وحرمة أهلها، ولكن وصل الأمر لهدم مساكن عدد من المطلوبين للشرطة كما تفعل قوات الأحتلال الإسرائيلي مع المقاومين الفلسطينيين، بالإضافة لحرق العديد من المزارع وإطلاق النار علي الماشية، ووضع كل أبناء كرداسة علي قائمة المطلوبين أمنيا، وأصبحت خانة محل السكن في البطاقة الشخصية أو جواز السفر أزمة كبيرة لصاحبها إذا كان مذكورا فيها أن محل الإقامة هي “كرداسة”

وربطت الشهادات بين ما جري في 1965 وما حدث في 2013، بأن أبناء كرداسة يرفضون الظلم ويرفضون الحكم العسكري، الذي عانت منه القرية منذ أحداث كرداسة الأولي وحتي تاريخ كتابة هذه السطور، وهو الكره الذي يعرفه النظام العسكري، والذي حرم معظم المناصب القيادية وحتي الالتحاق بالجيش والشرطة علي معظم أبناء كرداسة الذين يعاملهم النظام المصري كما يعامل أبناء سيناء، بأنهم مواطنون من الدرجة الثالثة، وأن الجميع مشتبه فيه حتي يحدث العكس.

أحكام مسيسة

وووصف العديد من القانونين الأحكام التي صدرت مؤخرا في حق ابناء كرداسة بأنها أحكاما سياسية انتقامية، خاصة وأن الأدلة التي قدمتها الأجهزة الأمنية عن عملية حرق المركز وقتل ضباطه لم يظهر فيها إلا عدد محدود من الشخصيات ومعظمها ليس مقبوضا عليه، وبالتالي فإن ما يحدث هو انتقام من المدينة التي رفضت الانقلاب وتصدت له طوال السنوات الثالثة التالية له بالعديد من الفعاليات والمظاهرات التي جعلت المدينة والقري المحيطة بها محل غضب السيسي وانقلابه.