العدسة: محمد العربي

لم تكن مجرد رواية للتبرئة بقدر أنها عكست شكل الأزمة التي تعيشها الأسرة الحاكمة بالمملكة العربية السعودية، فالبيان الذي اعترف بعد تهرب دام 18 يوما بمقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي ، ورغم أن البيان حاول أن يكون بمثابة طوق النجاة لولي العهد محمد بن سلمان المتورط في دم خاشقجي من الرأس حتى النخاع، إلا أنه يمكن أن يكون هو ذاته أول عقدة في حبل المشنقة التي سوف تقضي على الطموح السياسي للدب القاتل.

وطبقا لتحليلات عديدة فإن البيان الذي خرج في الساعات الأولى من صباح السبت الماضي، كان مخرجا مهترئا لولي العهد الذي ضحى بأقرب المقربين منه وهما المستشار بالديوان الملكي سعود القحطاني ونائب رئيس المخابرات العامة أحمد العسيري، ما يشير إلى أنه في حالة ممارسة ضغوط أكبر في القضية التي تسعى المملكة لغلق ملفها، فإن المقصلة سوف تطال ولي العهد نفسه.

هل انتهت؟!

على مدار الساعات الماضية شهدت الساحة السياسية والإعلامية العربية والعالمية، سجالا موسعا حول مصير القضية، ففي الوقت الذي أكد فيه داعمي النظام السعودي أن الإجراءات التي أعلنتها المملكة واتخذتها ضد قاتلي خاشقجي ، كفيلة بغلق باب الاجتهادات حول تورط محمد بن سلمان في العملية، فقد طالبوا المعارضين لتحركات المملكة (الإصلاحية) بالتوقف عن محاولة القتل المعنوي للملك المقبل.

وفي المقابل قدم الرافضون للرواية السعودية العديد من الدلائل على تورط ابن سلمان في الجريمة البشعة، مستدلين بأقوال أقرب المقربين منه والذي كان أول كبش للفداء وهو سعود القحطاني، الذي سبق وأن نشر عبر حسابه على تويتر قبل إقالته أنه لا يقوم بشيء إلا بعلم رؤسائه وأنه مجرد منفذ للأوامر.

وطبقا للمحللين فإن الدلائل تشير لتورط ابن سلمان وأن الإجراءات التي اتخذها الملك سلمان، ليست نهاية المطاف، خاصة وأنه في حال رفعت أمريكا دعمها عن ولي العهد القاتل فإن الموضوع أصبح منتهي في غير صالحه، مؤكدين أن الرواية التركية المنتظرة، وكذلك مصير جثة خاشقجي ، والصراع الدائر بين الكونجرس وإدارة ترامب، وصلابة الموقف الأوروبي سوف يحسمون لحد كبير الشكل النهائي والحقيقي للقضية.

ويشير هذا الفريق أن الرواية السعودية حول الحادث يبدوا أنها جاءت على خلفية نقاش ممتد بين أجهزة المخابرات السعودية والإماراتية والمصرية والإسرائيلية والأمريكية، كمحاولة لإنقاذ ولي العهد بعد أن اشتد الخناق حول رقبته، مستدلين بما نشره قائد شرطة دبي السابق ضاحي خلفان عبر حسابه على تويتر يوم الخميس الماضي وقبل الإعلان السعودي بـ 48 ساعة، حول مسار القضية المتوقع والتي جاءت مطابقة للإجراءات السعودية بشكل كامل، حيث قال خلفان ” لو افترضنا أن موظفا في  القنصلية السعودية في تركيا اعتدى على خاشقجي في خلاف على استصدار شهادة ..أدى ذلك  الاعتداء إلى وفاة خاشقجي…فمن المؤكد أن الشجاعة الأخلاقية التي نعرفها في السعوديين أن يقروا بصحة الواقعة ويقيموا الحد على المعتدي، ويسلموا جثة المجني عليه إلى ذويه».

ويشير المحللون أن مقترح خلفان جرى الإعلان الرسمي عنه بالفعل بعد 48 ساعة من نشره، ولأن قائد شرطة دبي السابق ذات علاقات واسعة بالشيخ محمد بن زايد، فإن ما نشره يؤكد أنه كان مطلع على السيناريو الذي كان يتم مناقشته في الغرف المغلقة، خاصة وأن الشرطي السابق سبق وأعلن أن خاشقجي حيا ولم يقتل، بل إنه جزم أن الصحفي المغدور به موجود بالفعل في العاصمة القطرية الدوحة.

لعنة المنشار

ويشير مراقبون أن الضغوط التي مارستها تركيا والولايات المتحدة خلال الأيام التي سبقت البيان السعودي، تؤكد أن المملكة لم يكن في نيتها أن تتخذ مثل هذه الخطوة، ولكنها نتيجة الضغوط وجدت نفسها أمام طريق لا مفر من الدخول فيه، وهو ما يؤكد أن المملكة منذ أن أطلع عاهلها الملك سلمان على التفاصيل من خلال الرئيسين الأمريكي والتركي، كانت على علم كامل بما جرى داخل قنصليتها باسطنبول، وأنه بمزيد من الضغط سوف تكشف كذلك عن مكان إخفاء الجثة إن كانت الرواية السعودية بها نسبة من الواقع بأن الرجل قتل ولم يتم تقطيعه.

وضمن هذا الفريق من يرى أن البيان السعودي رغم أنه كان لتقديم كبش الفداء، لكنه يشير لنجاح الضغوط التي تم ممارستها على المملكة والتي كانت تصر طوال 18 يوما على رفض مجرد فكرة أن خاشقجي تم جرحه وليس قتله، وهي القراءة التي أيدها الكاتب بالأهرام جمال غيطاس، مؤكدا أن البيان لا ينفي واقعة المنشار التي جرت في القنصلية السعودية ضد خاشقجي وهي الواقعة التي طالت كل آل سعود، ولم يكن لها أن تظهر إلا نتيجة الضغط.

المأزق السعودي

ويشير محللون آخرون تناولوا البيان السعودي بالتحليل، أنه شهد ثغرة خطيرة يمكن أن تكون سببا في كشف تورط ابن سلمان في الجريمة، حيث أشار البيان بأن الجثة تم تسليمها من خلال مسئولين بالقنصلية لمتعهد محلي للتصرف فيها، وهي الثغرة التي تجعل تركيا صاحبة حق أصيل في مسار التحقيقات، كما أن هذا المتعهد اللغز وإن كان لا يعرفه أحد، إلا أن المسئولين الذين تعاملوا معه معروفين لدى مسئولي القنصلية، وبالتالي فإن كشف لغز الجثة يمكن أن يعيد الاتهامات لمسارها الطبيعي بتورط ابن سلمان.

وطبقا لقراءة قدمها المستشار المصري السابق بالأمم المتحدة إبراهيم نوار فإن البيان لم يوضح ما إذا كان العميل الذي تسلم الجثة تركيا أو من جنسية أخرى ويعيش في تركيا، وما إذا كان العميل جاء إلى القنصلية، أم أن القنصلية ذهبت إليه بالجثة في السيارة الفان السوداء المجهولة حتى الآن، مؤكدا أن المواجهة التي جرت مع خاشقجي منذ دخوله القنصلية كانت عنيفة وقاسية، وأن الخطة اعتمدت على محورين، الأول أن التعليمات كانت لفريق القتل بتخدير الضحية، وإحضارها حية للمملكة بطريقة قريبة ولكن أكثر تعقيدا، من خطف الزعيم الكردي عبدالله أوجلان، وفي حالة صعوبة ذلك تتخذ الخطة المحور الثاني، وهو التحقيق معه بعنف، وتقطيع أوصاله وهو حي، ثم التخلص من جثته، على أن يعود فريق القتل فورا في اليوم نفسه، موضحا أن المعلومات المتناثرة تشير إلى أن التعليمات كانت في اتجاه الخيار الثاني منذ البداية، متوقعا أن يكون فريق القتل اصطحب معه إلى الرياض رأس خاشقجي، وأصابع يديه، ولسانه.

ويرى نوار أنه بعد أن أقرت السعودية بـ “موت” خاشقجي داخل القنصلية، وتسليم الجثة لعميل محلي للمخابرات السعودية، أصبحت السعودية في مأزق أكبر، فالمملكة كذبت في البداية، ثم ارتكبت جريمة ” تسليم جثة ميت” لجهة غير رسمية، ولم تبلغ السلطات التركية فورا بما حدث، باعتبار أن الواقعة جرت داخل الحدود السياسية السيادية للدولة التركية، وبالتالي فإن محاولات تقديم كبش فداء لن تفيد، كما لن يفيد الكذب، وسيظل رب العرش السعودي متهما، وستظل جثة خاشقجي شاهدا عليهم ليوم الدين.

الحلول الممكنة

ويبقى السؤال المطروح طبقا للفريق المعارض للرواية السعودية وهو كيف يتم إعادة الاتهام مرة أخرى لمحمد بن سلمان حتى لا ينجو بجريمته، وتنجح خطة كبش الفداء في ظل دعم الرئيس الأمريكي ترامب للرواية السعودية التي علق عليها مرة، بأن ولي العهد ربما لم يكن على علم بما جرى لخاشقجي ، ومرة أخرى بأن قتلة مارقين هم من نفذوا الجريمة.

ويرى هذا الفريق أن الوضع ليس في صالح ابن سلمان بالشكل الذي يتخيله، وأن الدعم الذي يقدمه ترامب وإدارته لولي العهد، يواجه بحملة أخرى لا تقل شراسة عن دعم ترامب، من الإعلام الأمريكي وأعضاء الكونجرس، خاصة وأن الصراع الانتخابي الأمريكي دخل مرحلة هامة، ولأن قضية خاشقجي سياسية أخذت دفعة عالمية فإن أعضاء الكونجرس لن يتعاملوا معها كما تعامل ترامب، وسوف يمارسون ضغوطا على الرئيس من أجل رفع دعمه عن ولي العهد القاتل.

وقد عبر الكاتب الأمريكي نيكولاس كريستوف عن هذه الحالة بمقال في النيويورك تايمز، مؤكدا أن ترامب استخدم حكومة الولايات المتحدة للتستر على همجية مستبد أجنبي، مضيفا أن هناك علاقة تربط أربعة على الأقل من القتلة المزعومين بمحمد بن سلمان. فكما كتبت النيويورك تايمز، وكما لا يخفى على كل من يعرف السعودية، فإن اعتداء وقحا كهذا لا يمكن أبدا أن يحدث دون موافقة ابن سلمان، وإن صحت التقارير، فقد حدث ما حدث جزئيا لأن مسؤولين أمريكيين—وآخرين كثيرين في غمرة إقبالهم على ابن سلمان— مكنوا حاكما متهورا وساعدوه في الوصول للسلطة والانفراد بها، وجعلوه يعتقد أنه قد ينجو بأية فعلة كانت.

ويضيف الكاتب الأمريكي أنه إذا استطاع ابن سلمان فعل مجازر باليمن وظل يلقى الاستحسان والتوقير في أمريكا، فلا عجب أن يعتقد أن باستطاعته النجاة بتقطيع أوصال صحفي مثير للمشاكل. وإذا لم يواجه بأية عواقب جادة هذه المرة ، بعد أن صار يلقب “أبا منشار”، فما الذي سيفعله بعد اليوم؟

ويضيف الكاتب الأمريكي أن الأمير المجنون ليس همجيا فقط، بل هو أيضا غير كفء ولا يمكن الاعتماد عليه. فهو لا يخدم مصالح أمريكا؛ بل يضر بها بالفعل، وسوف يجر أمريكا لحرب مع إيران، داعيا ترامب أن يتوقف عن الاشتراك في عملية التستر، وأن يدعو لتحقيق دولي تدعمه الأمم المتحدة.