العدسة: محمد العربي
لم تشهد قضية كانت الولايات المتحدة الأمريكية طرفا فيها هذا الكم من التصريحات المتضاربة، كما شهدتها قضية مقتل الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي، فعلى مدار اليوم الواحد يمكن أن يخرج من الرئيس الأمريكي ترامب التصريح وضده، ففي الوقت الذي أعلن فيه عدم معرفة ولي العهد محمد بن سلمان بما جري مع خاشقجي، عاد بعدها ليقلل من تأكيده، مضيفا كلمة “ربما” قبل كلامه، وهو ما يغير المعنى بشكل كبير، ثم يضيف في تصريح ثالث بأنه تعرض لخداع من المسئولين السعوديين.
ورغم أن التصريحات التي خرجت عن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أمس الأحد، كشفت هي الأخري عن تطابق كبير في المصطلحات التي خرجت عن ترامب، إلا أن الأخير أضاف تصريحا جديدا يحمل تلميحا بتورط ولي العهد السعودي في مقتل خاشقجي.
فهل يعكس هذا التغيير في التصريحات والألفاظ حالة من التضارب داخل الإدارة الأمريكية، وهل هناك ما يمكن أن نسميه صراعا بين الأجهزة الأمريكية التي شهدت تخبطات متعددة منذ قدم ترامب للبيت الأبيض، وهل ما تشهده الساحة الأمريكية في التعاطي مع قضية خاشقجي صراعا حقيقيا بين الكونجرس والرئيس، أم أن ما يجري ليس إلا توزيعا محكما للأدوار للحصول على المزيد من الأموال السعودية.
ماذا يريد ترامب؟!
يرى العديد من الخبراء أن الرئيس الأمريكي ترامب يبدوا أنه بين نارين، الأولى هي فجاجة وبجاحة الجريمة التي تشير كل دلائها لتورط ولي العهد السعودي فيها، وهو الخط الذي سارت عليه وسائل الإعلام الأمريكية منذ البداية وحتى الساعة، وقد سار معهم معظم أعضاء الكونجرس من الجمهوريين والديمقراطيين الذين تحدثوا حول الموضوع.
أما النار الأخرى فهي التي أعلنها ترامب صراحة وهي أن رقبة ابن سلمان تعني ضياع صفقات سلاح تجاوزت المائة مليار دولار، لأنه في حالة ثبوت تورط ابن سلمان فإن الدستور الأمريكي ينص على فرض عقوبات علي السعودية أبرزها وقف صفقات السلاح المبرمة مع الشركات الأمريكية.
ويرى المتابعون أن ترامب في البداية تعاطى مع البيان السعودي الذي خرج في الساعات الأولى من السبت الماضي بترحاب وتأييد، وأكد أنه يثق في الرواية السعودية، إلا أنه وبعد الضغط الإعلامي والسياسي الأمريكي والدولي ضد الرواية السعودية، عاد الرئيس الأمريكي ليؤكد في اتصال فجر الأحد مع صحيفة “واشنطن بوست” أنه “من الواضح أنه كان هناك خداع وأكاذيب“، مضيفا “حين تحدثت مع السعوديين فلم يخبرني أحد أنه مسؤول ولم يخبرني أحد أنه غير مسؤول “.
وطبقا للصحيفة فإن ترامب دافع عن السعودية مؤكدًا أنها “حليف لبلاده”، ولكنه عاد وأكد أنه “ربما لا يتمتع بعض المسؤولين هناك بالمصداقية .. لكن السعودية حليفنا .. وهناك احتمال لا بأس به أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لم يصدر أوامره بقتل جمال خاشقجي”.
وبرر المتابعون هذا التغير من الرئيس الأمريكي بأنه ارتبط بما نقله له وزير خارجيته الذي التقى ملك السعودية وولي عهده، مشيرا إلى أنه أطلع ترامب على ما جرى في اللقاء، وأن هناك قناعة لدى الولايات المتحدة بانتظار المزيد من نتائج التحقيقات التي اعتبرها هامة خلال الأيام المقبلة.
أمريكا الأخرى
هذه الحالة التي يظهر عليها ترامب دفعت “بوب كوركر” رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، للإعلان صراحة عن تورط ابن سلمان في مقتل خاشقجي ودعا الرئيس الأمريكي بمحاسبته، مؤكدا في حديث لـ cnn أن السعوديين “فقدوا كل مصداقية فيما يخص التفسيرات لما حدث”، مضيفا: “آمل في أن نحصل خلال الأيام القريبة على التسجيلات المتوفرة لدى الأتراك، ولم نتلقها بعد، لكنني لا أعتقد أن أحدا يثق بهذه الرواية”.
ودعا كوركر سلطات بلاده بأن تتعامل مع هذه القضية استنادا إلى “قانون ماغنيتسكي” وأن تطال العقوبات كل الجهات المتورطة بقتل خاشقجي، مؤكدا أنه “بناء على المعلومات التي اطلعت عليها، أعتقد أن محمد بن سلمان متورط في هذا الحادث وهو من أدار العملية، وهذا الصحفي خاشقجي تم قتله عمدا”، مضيفا أنه “من الواضح أن الأمير تجاوز الخط الأحمر إذا أقدم حقا على ذلك وقتل الصحفي خاشقجي، ويجب أن يكون هناك عقاب وأن يدفع ثمن فعلته”.
وهو نفس ما ذهب إليه نائب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن الذي انتقد تعامل ترامب مع الحادث ووصفه بـ ـ”المخجل والخطير”، متهما حكومة ترامب قائلا: “هم يقوضون سمعتنا الأخلاقية في جميع أنحاء العالم”.
لماذا ترامب
وفي تعليقها على موقف ترامب من القضية أكدت وكالة دوتشه فيلا الألمانية، أن ترامب لم يكن يريد منذ البداية الدخول في هذا الملف الشائك، لما يمكن أن يحدثه من نتائج سلبية على مبيعات الأسلحة للسعودية، وهو القرار الذي وصفه ترامب أكثر من مرة بأنه يمثل ضررا على الاقتصاد الأمريكي أكثر من السعودية، كما أشار في بداية الأزمة لوكالة فوكس نيوز الأمريكية.
وطبقا للوكالة الألمانية فإن الضغوط التي مارستها الصحافة الأمريكية وخاصة الواشنطن بوست التي كان خاشقجي أحد كتابها البارزين من منطقة الشرق الأوسط، هي التي دفعت بالرئيس الأمريكي للدخول في القضية.
ويشير متابعون أنه كلما زاد الضغط الإعلامي والسياسي الأمريكي فإن الرئيس الأمريكي يجد نفسه مضطرا لتغيير لغة خطابه المؤيد لولي العهد إلى خطاب آخر أكثر عنفا ولكن بما لا يؤدي إلي تضييق الخناق حول رقبة الأمير القاتل.
هنا أردوغان
ورصدت العديد من التحليلات الإعلامية والسياسية أن الرئيس الأمريكي ساعد من خلال إداراته في رسم السيناريو الذي خرج به البيان السعودي، وأن مؤتمره الصحفي بقاعدة الإليزونا فور الإعلان عن بيان النائب العام السعودي، لم يكن من قبيل المصادفة، ولذلك جاءت تصريحاته لتساعد المملكة في توجيه القضية نحو رواية واحدة يجب على الجميع أن يصدقها، وهو ما يبرر إعلان ترامب ثقته في الرواية السعودية، مشككا في الرواية التركية التي لم تظهر بعد.
ومن خلال هذا الرصد فإن أردوغان المتحفظ منذ البداية في الكشف عن مسار تحقيقات حكومته، أعلن أنه سوف يكشف مزيدا من الحقائق خلال اجتماع الهيئة البرلمانية لحزبه الثلاثاء المقبل، وحسبما ذكرت وكالة “الأناضول” تساءل أردوغان: “لماذا جاء 15 شخصًا إلى هنا؟ ولماذا تم اعتقال 18 آخرين؟ ينبغي الإفصاح عن جميع تفاصيل هذه الأمور، وسأتحدث عنها بشكل مختلف جدًا الثلاثاء خلال خطابي أمام الكتلة البرلمانية، وسأخوض في التفاصيل حينها”.
ويرى المتابعون أن تصريحات أردوغان أعادت ضبط الموقف الأمريكي مرة أخرى، وبناء على ذلك جرت المحادثة الهاتفية بين أردوغان وترامب مساء الأحد، التي تشير التقارير الصحفية التي تناولت المحادثة أن الرئيسان تبادلا وجهات النظر بقضية خاشقجي، وشددا على ضرورة كشف ملابسات القضية، بعد أن أعلنت السعودية مقتل خاشقجي إثر “مشاجرة” في قنصليتها بإسطنبول.
التضحية بالأمير القاتل
وأثار العديد من المختصين تساؤلا استباقيا في حالة كشف أردوغان عن معلومات أو أدلة تؤكد تورط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في عملية القتل، فهل في هذه الحالة سوف يغير ترامب موقفه من ولي العهد الذي صنعه على يديه، أم أنه سوف يتحدى الدستور الأمريكي والكونجرس ويصر على المضي في الدفاع عن الأمير القاتل.
وطبقا لتصريحات ترامب في قاعدة الإليزونا فإن الكونجرس يمكن أن يكون له دور في القضية، إذا ما كانت هناك أدلة جديدة تثبت تورط مسئولين كبار في المملكة.
وتشير تقديرات المراقبين إلى أنه في حال وجود دليل قاطع عن تورط ابن سلمان فإن الولايات المتحدة لن تفشل في إيجاد بديل يمكن أن يقدم لها مزيدا من التنازلات والأموال، وبالتالي فإن الأغلب أنها سوف ترفع يدها عن دعم الأمير القاتل، الذي خدع ترامب وفقا لوصفه لصحيفة الواشنطن بوست فجر الأحد.
ويستدل المراقبون بتجديد وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين يوم الأحد إعلانه بعدم المشاركة في مؤتمر الاستثمار السعودي المقرر عقده الثلاثاء المقبل، حيث أكد الوزير الأمريكي لعدد من وسائل الإعلام خلال زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة “لا أعتقد أنه من المناسب أن أذهب وأتحدث في هذا المؤتمر، لكن تظل لدينا ملفات مهمة مع السعودية “، مؤكدا في الوقت نفسه أنه من السابق لأوانه التعليق على العقوبات ضد الرياض .
ويأتي موقف الوزير الأمريكي بعد إعلان ترامب أن بلاده ستبحث أمر فرض عقوبات على السعودية، وأنه غير راض عن التفسير الذي قدمته السعودية لقضية موت خاشقجي.
اضف تعليقا